تفسير سورة الزخرف 30-39 - ما هو معيار العظمة الذي من خلاله يستحق الإنسان النبوة والرسالة؟


وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ 31 أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ (32)
- ذكرنا أن مما طرحه المشركون كسبب من أسباب رفضهم الإيمان بالرسالة واعتبروه عائقاً عن الإيمان بالقرآن وبالرسول، هو عدم اقتناعهم بشخص محمد (ص)، واستهانتهم بشأنه، متحججين بأنه لو كان الرسول رجلاً آخر من مكة أو الطائف بحيث يتصف بالعظمة بحسب معيارهم لآمنوا وصدّقوا بالرسالة.
- وذكرنا أن معيارهم في العظمة المال والجاه في أوساطهم. وهو ما كان يفتقده النبي، بينما في القريتين شخصيات كانت تتصف بذلك، فلماذا لم يتم اختيارهم من قبل الله؟
- ولنعرف مضمون ما جاء من الرد عليهم، نتوقف أوّلاً عند بعض الكلمات الواردة:
1. الرحمة هنا خصوص النبوة والرسالة ومن ثَم تلقّي القرآن الكريم.
2. العيش: الحياة المختصة بالحيوان... فبينما يمكن أن تسند الحياة لله، فتقول: (الله الحي)، وتسندها للملائكة فتقول (الملائكة أحياء)، وهكذا للبشر ولسائر الكائنات الحية، بينما لا يصح إسناد كلمة (العيش) لله، فلا نقول (يعيش الله)، ولا الملائكة ولذا لا نقول (عيش الملائكة)، بينما يصح إسنادها إلى الإنسان فنقول (يعيش الإنسان).
3. التسخير: السوق إلى الغاية المحددة قهراً: ﴿ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَارَ، وَسَخَّر لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنَ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ﴾
إبراهيم:32-33. أو التكليف بعملٍ ما مع الإذلال كما في الآية 32 من الزخرف.
- نعود لنتعرف على مضمون ما جاء من الرد على قريش في ما أثاروه من إشكال.
- يقول لهم الله تعالى: إنّ قولكم هذا تحكم ظاهر، ينبغي أن يتعجب منه:
1. فإنكم تحكمون فيما لا تملكون. هذه معيشتكم في الحياة الدنيا بكل نعمها وما فيها من رزق، من أين جئتم بها؟ أليست من عند الله؟ أليست هي رحمة من رحمات الله؟ وهكذا الأمر بالنسبة إلى النبوة والرسالة هي رحمة من رحمات الله، وشأن من شئونه، وهو الأعلم بمن يستحقها، وهو الذي يختار من يستحقها، لا أنتم.
- بل من المفترض أن يكون اختيار الأنبياء والرسل من اختصاص الله من باب الأولى، فالرزق للحياة الدنيا عرض زائل، وهو من شأنه تعالى، فكيف بالأهم وهو النبوة التي هي
الرحمة الكبرى، ومفتاح سعادة البشر الدائمة ؟
2. ألا تشهدون التفاوت بينكم في مقادير الرحمات الإلهية والأرزاق، وإلى المستوى الذي يكون فيه بعضكم مسخّراً لخدمة الآخر، فالبعض سادة، والبعض خدم، والبعض عمال أجراء، وهكذا. هذا التفاوت من تقدير الله ومن حكمته لكي تتكامل الحياة.
- وهكذا، فإن من تقديراته أن يختار من يكون الأعلى مرتبة من الناحية الإيمانية والروحية والسلوكية ليستحق أن يكون نبياً ورسولا وينزل عليه كتاب الله، وليس هذا من شأنكم.
- وهذا يعني أن المال والجاه اللذين من خلالهما تقيسان عظمة الفرد، كلاهما مقسومان من عند الله تعالى، فكذلك النبوة هي من عند الله.
وَلَوْلا أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِّن فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ (33) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِؤُونَ (34) وَزُخْرُفًا وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةُ عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (35)
- تأتي هذه الآيات لتصحيح ما طرحه المشركون حول معيار العظمة عندهم، أي المال والجاه، فهي تبيّن أن متاع الدنيا لا قدر له عند الله سبحانه ولا منزلة، ولذا فكلاهما ليسا من معايير تحقق العظمة عند الله.
- إن من المقدور بالنسبة إلى الله تعالى أن يجعل كل كافر يمتلك من المال ما يمكّنه من أن يتخذ لنفسه بيتاً سقفه من فضة، وهذا البيت مكوّن من طوابق عديدة، وحجرات بأبواب وأثاث للاسترخاء، والزخارف ووسائل التزيين تملأ المكان، وبما يجعل صاحب هذا الملك إنساناً ذا مكانة ووجاهة في المجتمع، ولكن هذا -في نهاية المطاف- لا يغير من الحقيقة شيئاً، وهي أن كل هذا الملك الدنيوي ليس هو المعيار في العظمة، فهو من جهة نعيم مؤقت وزائل، ومن جهة أخرى سينال الكافر جزاءه الأخروي في حياة أبدية مليئة بالعذاب، نتيجة كفره وجحوده وعدم شكره للنعم.
- أما الذين سينالون نعيم الحياة الأخروية الأبدية فهم المتقون.. فالتقوى هي معيار العظمة عند الله، وهي المعيار الحقيقي لتقييم الناس والتفاضل بينهم.
- والسؤال: ولماذا لا يعطي الله كل كافر ذلك المستوى من النعيم في الدنيا؟
- الجواب: وَلَوْلا أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً ... ما معنى ذلك؟
- الاحتمال الأول: أن تقدير الله أن لا يجعل الناس على مستوى واحد في المعاش، بل يكون بينهم تفاوت لتتكامل الحياة.
- الاحتمال الثاني: أن تقدير الله أن لا يجتمع الناس على الكفر، فلا يبقى عل الأرض مؤمن، لأن حصول الإنسان على ذلك المستوى من المال والجاه يتوافق مع هوى النفس عادة، فإن كانت نتيجة الكفر الحصول على ذلك، فإن الناس سيتهافتون على الكفر.
- الاحتمال الثالث: أن تقدير الله أن لا يكون هناك ارتباط بين الرزق في الدنيا وبين الإيمان والكفر، بل المسألة ترتبط بالأسباب الطبيعية التي قدّرها الله في اختلاف مستويات الناس في ما يحصلون عليه من رزق مادي ومعنوي.