خطبة لسماحة الشيخ علي حسن غلوم حول مرض الوسواس القهري ـ الجزء الأول


(بوجاسم) رجل شارف الخمسين من عمره، نحيل تعلو بشرته صُفرة تحكي معاناته، عندما تستمع إليه تجد حالة التردد والقلق وعدم الرضا تنبع من كلماته، مشكلته الكبرى أنه شخص وسواسي في الطهارة وفي الوضوء وفي الصلاة.. زوجته تحكي معاناتها ومعاناة أبنائها معه، وكيف فقد الكثير من وزنه وأهمل أسرته وفشل ابنه دراسياً واجتماعياً، والنتيجة أنه حوّل حياتهم إلى جحيم... وبوجاسم واحد من كثيرين يعانون ذات المشكلة، فما حقيقة الوسواس، وكيف عالجت النصوص الدينية هذه المشكلة؟ وهل يقع التعارض بين العلم والدين في هذا الأمر؟
الوسوسة في القرآن:
عندما تحدث القرآن الكريم عن الوسوسة، لم يتعرّض للوسواس الذي يصيب الناس وفق المفهوم الدارج علمياً وعرفاً، ولذا قال الراغب الأصفهاني في كتابه المفردات: الوسوسة: الخطرة (الفكرة) الرديئة، وأصله من الوسواس وهو صوت الحلي والهمس الخفي.
ويمكن أن نقسّم الآيات التي تحدثت عن الوسوسة إلى:
1ـ الحديث الخفي لشيطان الجن: (فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْآتِهِمَا) (الأعراف:20)
2ـ حديث شيطان الإنس في التحريض على الباطل: (من شر الوسواس الخناس، الذي يوسوس في صدور الناس، من الجنة والناس) (الناس:4-6).
3ـ الأفكار الذاتية أو حديث النفس: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ) (ق:16).
وكل هذه الآيات القرآنية لا علاقة لها بالموضوع، وسبب هذا الخطأ يعود إلى استخدام مادة (وسوس)، والحقيقة أن المشكلة التي نبحث حولها ترتبط بحالة مرضية نفسية أو عقلية أو نفسية/عقلية. كما أن البعض يخلط بين كثرة الشك وبين الوسواس، وهذا خطأ آخر، فكثرة الشك قد تكون لعدم التركيز الذهني، أو للهزات العاطفية الحاصلة لدى الفرد، أو نتيجة أفكار تتوالى بفعل حديث النفس أو الإلقاءات الشيطانية، دون أن تصل إلى حد مرضي، فهي حالات مؤقتة وذات تأثير بسيط. نعم قد تتطور نتيجة عوامل وراثية أو بيئية أو نفسية لتتحول إلى مرض الوسواس القهري، ولكل منهما معالجة مختلفة من عدة نواحي، ولذا قال المرجع الراحل السيد أبوالقاسم الخوئي في بيان حكم كثير الشك: (ولكنه يختص بغير الوسواسي ، وأما الوسواسي ـ وهو من لا يكون لشكه منشأ عقلائي بحيث لا يلتفت العقلاء إلى مثله ـ فلا يعتني بشكه مطلقاً).
كثرة الشك:
تكرر الفكرة أو العمل نتيجة الرغبة في الدقة أو الالتزام الديني وغير ذلك، دون أن يصل الأمر إلى الحد المرضي، وهذا ما عالجته غالبية النصوص الدينية، ومنها:
مثال 1ـ عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لرجل أخبره عن نفاقه: والله ما نافقت ولو نافقت ما أتيتني، تعلمني ما الذي رابك، أظن العدو الحاضر أتاك فقال لك: من خلقك؟ فقلت: الله خلقني، فقال لك: من خلق الله؟ قال: إي والذي بعثك بالحق لكان كذا. فقال: إن الشيطان أتاكم من قِبل الأعمال فلم يقو عليكم، فأتاكم من هذا الوجه لكي يستزلكم، فإذا كان كذلك فليذكر أحدكم الله وحده. ( معالجة معرفية + ذكر الله لترسيخ العقيدة).
مثال 2 ـ عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام ـ وقد سئل عن الوسوسة وإن كثرت ـ : لا شئ فيها، تقول: لا إله إلا الله. (معالجة معرفية + تهوين الأمر كي لا يتطور + الذكر).
مثال 3 ـ عن الإمام علي عليه السلام: صوم ثلاثة أيام من كل شهر، أربعاء بين خميسين، وصوم شعبان، يذهب بوسواس الصدر، وبلابل القلب. (معالجة عملية عبادية).
مثال 9 ـ عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام ـ لما سئل عن كثرة شك الرجل في عدد الركعات: لا تعوِّدوا الخبيث من أنفسكم بنقض الصلاة فتُطمعوه، فإن الشيطان خبيث يعتاد لما عُوِّد، فليمض أحدكم في الوهم، ولا يكثرنّ نقض الصلاة، فإنه إذا فعل ذلك مرات لم يعد إليه الشك... إنما يريد الخبيث أن يُطاع، فإذا عُصي لم يعد إلى أحدكم. (معالجة عملية).
الوسواس القهري:
كل النصوص السابقة لا تعالج الحالة المرضية المستفحلة، وفي مثل هذه الحالة:
1ـ لا يكفي أن يكرر المريض ذكراً معيناً، بل قد يستفحل المرض عنده ويأخذ منحى آخر.
2ـ لا يكفي أن نعلّمه الحكم الشرعي، لأن لديه عوامل ضاغطة (الفكرة ـ المزاج ـ السلوك).
3 ـ لايكفي أن نوحي له أن ذلك من الإيمان، بل قد يجده مبرِّراً لما يفعل.
والمعالجة الصحيحة تكمن في تشخيص الحالة بعرض الحالة على الطبيب النفسي المختص، ومعرفة هل المرض نفسي أم عقلي أم نفسي/عقلي، لأن نقصاً في المادة العاملة على توصيل المعلومات في الدماغ، أو ضعفاً في نقاط التوصيل، أو خللاً نفسياً حاداً كالاكتئاب أو القلق قد تكون هي السبب وراء ذلك، ولذا تتم المعالجة وفق التشخيص السليم عن طريق بعض الأدوية لتعديل التركيب الكيميائي في الدماغ، أو بواسطة الجلسات العلاجية النفسية.