خطبة الجمعة 6 ذوالقعدة 1444- الشيخ علي حسن : الخطبة الثانية: آكل حقوق الناس

- قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً) [النساء:29].
-أشرت في الخطبة الأولى إلى وجود صور عديدة ومتكررة يشهدها مجتمعنا وتمثّل نماذج ومصاديق لأكل المال بالباطل، وليس بالضرورة أن تكون من قبيل الربا والسرقة والقمار.
- واحدة من أمثلة أكل المال بالباطل ما جاء في الآية التالية: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النِّسَاء كَرْهًا وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ) [النساء:19]. فالآية تنهى عن استيلاء الزوج على المال الذي ترثه الزوجة من والدها المتوفى مثلاً، فهذا ملكها، وكونها زوجة لا يُبيح ذلك للزوج أن يأخذ شيئاً من ممتلكاتها إلى برضاها، وإلا كان من أكل المال بالباطل.
- مثال آخر على ذلك، ما نشهده من حالات متكرّرة يقوم فيه الولد الوارث -أو الأولاد من إحدى الزوجتين- بالاستيلاء على بعض ممتلكات الأب المتوفَّى، كبيت السكن مثلاً، وحرمان الأخوات -أو الأبناء من الزوجة الثانية- من حقوقهم في الإرث، ويتم ذلك بالحيلة، أو التزوير في الوصية، أو الاّدعاء الكاذب على الميت، أو التلاعب في المستندات، وغير ذلك من الوسائل.
- ولربما يقوم هذا الوارث بممارسة الضغط على أخواته، أو التهديد والوعيد، أو إعمال القوة الفعلية، كل ذلك من أجل تقديم التنازل عمّا يريد الاستيلاء عليه.
- كل هذا من أكل المال بالباطل، ومشمول بالآية الشريفة، ويجب أن نتيقّن أن لا قيمة ولا مشروعية لما أُخِذ بالإكراه، وأنّ تقادُمَ الزمن لا يُغيِّر من الحقيقة شيئاً ولا يُلغي الحقوق.
- ومثل ذلك ما يفعله بعض الأزواج من إكراه الزوجة العاملة وإجبارها على تسليمه كلَّ راتبها، أو قسماً منه، ولربما عمد إلى استعمال القوة أو الضغط النفسي الشديد لتقوم بذلك، وهذا كلُّه من أكل المال بالباطل.
- نعم، من الراجح للزوجة الحكيمة أن تساهم براتبها، وأن تُعين زوجَها من مالها الخاص، فهي بهذا تُحقّق أكثر من نتيجة إيجابية، ككسب ودِّ زوجها، ورفع مستوى معيشة الأسرة، وتقوية أركان هذه الأسرة... ولكن هذا شيء، والإكراه والإجبار شيء آخر.
- كما ونهت الآية السابقة من سورة النساء عن الضغط على الزوجة، والتضييق عليها، بافتعال المشكلات، أو الضرب، أو التنكيد، أو منعها من الخروج مطلقاً، وأمثال ذلك، من أجل أن تضطر إلى بذل شيء من المهر، أو التنازل عن المؤخّر مثلاً في مقابل الطلاق،
رغبةً منها في التخلص من ضيق المعيشة... فمثل هذا التضييق منهيٌّ عنه.
- نعم، لو كانت الزوجة فاسدة وقد أتت بفاحشة مبيّنة، فمن حق هذا الزوج المتضرر أن يضغط عليها ليسترجع المهر أو بعضه في مقابل أن يطلّقها، كعقوبةٍ لها على انحرافها.
- مثال آخر ما جاء في قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا) [النساء:10]، وهذا أيضاً من أكل المال بالباطل، ولا قيمة لما أُخذ بالحيلة والاختلاس، وللأسف قد يكون آكلُ مال اليتيم من أقرب الناس إليه.
- والقاعدة في التعامل مع مثل هذه الحالات ما جاء في رواية ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة عن ابن عباس (أن علياً [ع] خطب في اليوم الثاني من بيعته بالمدينة، فقال: ألا إن كلَّ قطيعة أقطعها عثمان، وكلَّ مال أعطاه من مال الله، فهو مردود في بيت المال، فإن الحق القديم لا يُبطله شيء. ولو وجدته وقد تُزوِّج به النساء، وفُرِّق في البلدان، لرددته إلى حاله. فإنّ في العدل سعة، ومن ضاق عنه الحق فالجور عليه أضيق). أي أن الحق لابد أن يعود إلى أصحابه، فالحق لا يسقط بتقادم الزمن، ومن مسئولية ورثة مَن أكل المال بالباطل أن يعيدوا الحق إلى أصحابه، وإلا كانوا شركاء في أكل المال بالباطل... وإذا كان اتخاذ خطوة في هذا الاتجاه قد يصعّب عليهم حياتَهم، فإن هذا أهون بكثير من شدائد الآخرة وعقوباتها.
- في الدعاء 18 في الصحيفة السجادية وعنوانه (وكان من دعائِهِ [ع] إذا دُفِعَ عَنْهُ ما يَحْذَرُ أَوْ عُجِّلَ لَهُ مَطْلَبُهُ) يقول الإمام زين العابدين (ع): (وَإنْ يَكُنْ مَا ظَلِلْتُ فِيهِ أَوْ بِتُّ فِيهِ مِنْ هَذِهِ الْعَافِيَةِ بَيْنَ يَدَيْ بَلاءٍ لاَ يَنْقَطِعُ، وَوِزْر لاَ يَرْتَفِعُ فَقَدِّمْ لِي مَا أَخَّرْتَ وَأَخِّرْ عَنّي مَا قَدَّمْتَ فَغَيْرُ كَثِير مَا عَاقِبَتُهُ الْفَنَاءُ، وَغَيْرُ قَلِيل مَا عَاقِبَتُهُ الْبَقَاءُ). إن كانت راحتي في الدنيا في مقابل بلاء أخروي شديد وتحمّل عقوبات أخروية أبدية، فإنني يا رب أفضّل صعوبات الحياة في الدنيا وتحمّل ذلك لأحصل على راحة الآخرة ونعيمِك ورضاك.
- قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً)، فميّزت الآية الشريفة ما بين التجارة القائمة على التراضي بين الطرفين، وهي صورة من صور تبادل الملكية وانتقالها بين الأفراد، وما بين أكل مال الآخرين بالباطل. فهناك أسسٌ ثابتة تنسجمُ مع الشرعِ والعقلِ والأخلاق، وما يُخالف ذلك فهو باطل، وله آثاره السلبية على المستوى الدنيوي والأخروي. والمسألة لا تدور مدار العناوين الواضحةِ فقط، كالربا والقمار والسرقة، فالدائرةُ أوسع، ومن أمثلةِ ذلك ما يرتكبُه الزوجُ من ضغطٍ على الزوجة لتتنازل له عن إرثِ نالته، أو عن قسمٍ مِن راتبها، وإلا فلها الويل... أو أن تتنازل عن شيءٍ من مهرِها في مقابل طلاقها... وهكذا الحال بالنسبة إلى ما يَستولي عليه بعضُ الورثة مِن أنصبةِ سائر الورثة، بالحيلةِ، أو التلاعبِ في الوصية، أو شهادةِ الزور، أو إخفاءِ شيء من المالِ المورَّث لجهلهم بمواردِه، أو غير ذلك، فإنَّ هذا كلَّه مِن أكلِ المالِ بالباطل، ولا يختلف من حيث المبدأ عمّا جاء واضحاً في قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا). إنّ ما قد يستتبعُ إرجاعَ الحقوقِ إلى أصحابِها، والاعترافَ بالخطأ، مِن الشعور بالضعف، أو الخسارةِ المادية، ولربما تحمُّل شيءٍ من الفضيحةِ في الدنيا، أهونُ بكثير من موقفِ الذُّلِّ والخزيِ بين يدي الله سبحانه، ومن نارِ الآخرة وعقوباتِها.