خطبة الجمعة 21 جمادى الآخرة 1444: الشيخ علي حسن : الخطبة الثانية: اضطراب ألعاب الإنترنت


- قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ، إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ) [المائدة:90-91].
- عرفت البشرية عبر تاريخها أنواعاً من الإدمان.. على الكحوليات، على القمار، وغيرهما، وتحدّثت عن آثارها التدميرية المختلفة على المستوى الشخصي وعلى الآخرين.
- كنا نقرأ أن من الصور البشعة للإدمان على القمار قبل الإسلام أن يقوم الخاسر بتقديم ابنته كأمَة، ونستبشع ذلك بشدة، وبمجيء الإسلام كانت تلك من الصور التي أُلغيت، فإذا بنا نقرأ عن آباء في هذا العصر -وفيهم مسلمون- باعوا بناتِهم لتسديد ديونهم القمارية!
- وهكذا تشاءمت البشرية على الدوام من الإدمان على الكحوليات والمخدِّرات، وتحدّثت عن آثارهما التدميرية على الأسرة، والجرائم البشعة التي قد تقع نتيجة ذلك.
- واليوم، ومع ظهور الكمبيوتر والإنترنت والعالم الافتراضي السيبراني، ظهر لدينا نوع جديد من الإدمان، لا يقل خطورة عن تلك الأنواع القديمة، بل لربما هو أخطر من بعض النواحي لأنه يستهدف الأطفال والمراهقين بشكل مباشر، وهو إدمان ألعاب الإنترنت.
- كتاب (التأثير السيبراني.. كيف يغير الإنترنت سلوك البشر) للدكتورة ماري آيكن Mary Aiken والتي عُرِّفت بأنها (أشهر متخصصة في مجال السيكولوجيا السيبرانية والأدلة الجنائية على نطاق العالم، ومديرة لشبكة بحوث السيكولوجيا السيبرانية)، من الكتب المهمة جداً للتعرف على العديد من مخاطر الانفتاح غير المنضبط على فضاء الإنترنت، لاسيما من قبل الأطفال والمراهقين، وقد كتبت صحيفة التايمزThe Times البريطانية: (إذا كان لديك أطفال، فتوقف عن كل شيء وخذ لك نسخة من هذا الكتاب).
- واحدة من القضايا التي عالجتها في كتابها هذا ما وضعته تحت عنوان (اضطراب ألعاب الإنترنت)، وعندما يقال (اضطراب) في المصطلح العلمي فهذا يعني وجود (خلل في الأداء الطبيعي للعقل أو الجسم).
- ذكرَت المؤلفة في البداية ثلاث وقائع بشعة جرت في بدايات القرن الحادي والعشرين ولها ارتباط مباشر بهذه الألعاب، واحدة منها تتمثّل في زوج وزوجته أدمنا على لعبة افتراضية جماعية يتوليان فيها رعاية طفلة خيالية، وكان لهما في الواقع طفلة حقيقية عليلة، أهملاها إلى أن توفيت بينما كانا مشغولين باللعب في إحدى مقاهي الإنترنت!
- حالات انتحار.. قتل الأم.. استمرار باللعب لأكثر من يومين متواصلين بما أدى للموت بنوبة قلبية.. وأمثال ذلك، كلها وقائع دفعت بعض العلماء لدراسة سلوك الدماغ البشري عند ممارسة هذه الألعاب، فاكتشفوا أن عمل الدماغ لا يختلف عن عمله عند المدمنين على الكحول أو المخدرات.
- وهكذا تم في سنة 2007م تشكيل فريق عمل من اثني عشر عضواً (الجمعية الأمريكية للأمراض العقلية) وعشرين مستشاراً من خارجها لديهم خبرة واسعة في معالجة الإدمان، وعُقدت بينهم اجتماعات على مدى خمس سنوات ناقشوا خلالها مطوّلاً 250 دراسة أجريت في بلدان مختلفة حول ممارسة الشباب والمراهقين لألعاب الإنترنت، والنتيجة أنهم أضافوا في عام 2013م (اضطراب ألعاب الإنترنت) إلى قائمة الاضطرابات العقلية!
- تقول المؤلفة أنه حين تكتشف (الجمعية الأمريكية للأمراض العقلية) اضطراباً سريرياً (كبيراً/شديداً) جديداً، فهذا مؤشر خطير، ويعني وجود مرض حقيقي تم تشخيصه بدقة، ويحتاج إلى تدخّلات طبية، وطرق للعلاج، واهتمام بالغ من قبل ذوي المرضى.
- وعلامات الإدمان نفسها توضّح جانباً من الآثار الخطيرة لإدمان ألعاب الإنترنت:
1. الاستخدام المفرط للإنترنت، وغالباً ما يرتبط بفقدان الإحساس بالزمن، أو إهمال احتياجات أساسية، كالغذاء، والعلاج، وتلبية الحاجات الضرورية للآخرين.
2. بروز مشاعر الغضب، والتوتر، و/أو الاكتئاب عند صعوبة توفّر وسيلة اللعب.
3. الرغبة المستمرة لاقتناء أدوات لعب أفضل، والمزيد من البرامج أو ساعات الاستخدام.
4. الشجار والعدوانية، الكذب، التخلف في الدراسة، أو عدم استغلال الفراغ بأشياء مفيدة، والانعزال الاجتماعي، والتعب.
- الذي يزيد خطورة الأمر، أننا إذا لم نكن -كأولياء أمور- مصدر توفير وسائل الإدمان على الكحوليات والمخدرات، فإننا قد نكون الجهة التي تؤمِّن وسيلة إدمان أبنائنا على ألعاب الإنترنت.. فهل لك أن تتخيّل أنك بدخولك البيت، تأتي وبيدك كمية من المخدرات وتوزعها على أبنائك؟ صورة بشعة.. أليس كذلك؟ ما نتحدث عنه قريب من ذلك.
- إنّ إضافةَ (اضطرابِ ألعابِ الإنترنت) إلى قائمةِ الاضطراباتِ العقلية، وإمكانيةَ تحوّلِ اللهوِ البريءِ إلى حالةِ إدمان مرَضِيّة ذاتِ تبعاتٍ وآثارٍ خطيرة على مستوى الفرد ومَن حوله، أمرٌ يستدعي التعامل مع المسألة بجدّية وحذَر، والمبادرة إلى اتخاذ الخطوات الضرورية عند ظهور بعض المؤشرات عند الأبناء قبل استفحال المشكلة وتطوّر الحالة.. فالشيء الذي لربّما يبدو مجرد رياضة تنافسية ولهو بريء، يُمكن أنْ يُخفيَ مِن ورائه مُشكلةً أعمقَ من ذلك بكثير. ولنتذكر أن القرآن الكريم حين تحدّث عن الخمر والميسر تحدّث عن الدور الشيطاني في إدمانهما، وما يترتب على ذلك من آثارٍ اجتماعيةٍ سلبية، مِن أخطرِها: إيقاعُ العداوة والبغضاء، وعن آثارٍ إيمانيةٍ عباديةٍ على رأسِها: الصدُّ عن ذِكر الله وعن الصلاة، ثم ختم سبحانه قائلاً: (فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ)؟ فهل نحن منتهون؟