كم مرة يموت الإنسان ويحيى ؟ تلاوة وتفسير الآيات 7-12 من سورة غافر


- في الآيات 7-9 حديث عن المؤمنين، أهل الجنة ودعاء الملائكة لهم، وفي الآية 10 حديث عن الذين كفروا: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ) يوم الحساب (لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِن مَّقْتِكُمْ أَنفُسَكُمْ) إن غضب الله وسخطه عليكم أكبر بمراتب من غضبكم على أنفسكم وسخطكم عليها حين تكشّفت لكم الأمور، وعلمتم سوء مآلكم في الآخرة على ما قدّمت أيديكم (إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ) في الحياة الدنيا، فما يجده الكفار في الآخرة من مقت الله هو نتيجة ما اختاروه بأنفسهم في دنياهم.
قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ 11
- هذا حديث أهل النار، في محاولة منهم للخروج من العذاب من خلال:
1. التوسّل إلى الله عز وجل بالاعتراف بربوبيته قَالُوا رَبَّنَا بلحاظ أن مقام الربوبية يستدعي العفو.
2. الاعتراف بالذنوب: فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا طمعاً في أن يكون اعترافهم هذا وسيلة إلى منحهم خروجاً
من العذاب خروجاً مَّا ليستريحوا منه ولو بعضَ الزمن، ولربما كان النداء الإلهي الموجه إليهم كما حكته الآية 10 قد أوهمهم أن الله قد أقبل عليهم إقبال رحمة ومغفرة.
3. الاعتراف بالحياة الثانية، أي الحياة الآخرة ويوم القيامة والحساب والثواب والعقاب بعد أن كانوا ينكرونها من قبل أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ، أي أيقَنَّا أن الحياة الثانية حق، فهل يمكن لمثل هذا التصديق والاعتراف أن يكون شفيعاً لنا في الخلاص من العذاب المهين؟
- وقد اختلف أهل التأويل في تحديد المراد من الموتتين والحياتين، فما الموتتان، وما الحياتان؟
- الرأي الأول: الموتة الأولى هي التي تسبق وجود الإنسان، والموتة الثانية هي التي تأتي بعد وجوده. وبذا تكون الحياة الأولى هي الحياة في الدنيا، أمّا الحياة الثانية فهي حياة الإنسان بعد البعث في الدار الآخرة.
- الرأي الثاني: الموتة الأولى هي الحالةُ التي يكون بها الجنين لَحْماً لا حياة فيه في أول تكوينه قبل أن يُنفخ فيه الروح. ثم يُحيى بنفخ الروح فيه، فهذا الإحياء الأول، ثم يميت الله الإنسان، ثم يُحييه في الآخرة.
- إشكال: الإماتة تُطلق في حالة ما لو كان الشيء حياً، ثم تُسلب منه الحياة، فكيف يصح أن تُطلق الإماتة على مرحلة ما قبل ولوج الروح في الجنين، أو ما قبل وجود الإنسان أصلاً؟
1. إطلاق الإماتة والموت على تلك الحالة مجاز (استعارة)، وهي شائعة في القرآن حتى ساوت الحقيقة، ومثال ذلك قوله تعالى: وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ، البقرة/28، ما يعني أن الله يعبر عن الحالة التي تسبق الحياة الدنيا بالموت.
2. إطلاق الإماتة والموت على مرحلة ما قبل وجود الإنسان إطلاق حقيقي، لأن الموت هو عدم الحياة، لا فقدانها بعد وجودها.. وهذا يصدق على مرحلة ما قبل وجود الإنسان.
الرأي الثالث: الموتة الأولى هي الإماتة عن الحياة الدنيا، والإحياء للبرزخ، ثم الإماتة عن البرزخ والإحياء للحساب يوم القيامة.
الرأي الرابع: الموتة الأولى هي الإماتة الأولى في الحياة الدنيا، والإحياء الأول يكون من خلال الرجعة في الحياة الدنيا قبل يوم القيامة، ثم تأتي الإماتة الثانية في الحياة الدنيا بعد الرجعة، ثم يأتي الإحياء للحساب يوم القيامة، كما وقع لمن أخبر عنه القرآن الكريم دون ذكر اسمه: أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَىٰ قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىٰ يُحْيِي هَٰذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا ۖ فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ ۖ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ ۖ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ ۖ قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ، البقرة/259، وفي قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ، البقرة/244، وفي قوله تعالى: وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَىٰ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ، ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ، البقرة/55-56، وفي قوله تعالى: إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَىٰ وَالِدَتِكَ ... وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَىٰ بِإِذْنِي.... المائدة/110،
- قال الطبرسي في مجمع البيان في تفسير سورة النمل / 83: استَدل بهذه الآية على صحة الرجعة من ذهب إلى ذلك من الإمامية... وقد تظاهرت الأخبار عن أئمة الهدى من آل محمد [ع] في أن الله تعالى سيعيد عند قيام القائم [ع] قوماً ممن تقدم موتُهم من أوليائه وشيعته ليفوزوا بثواب نصرته ومعونته، ويبتهجوا بظهور دولته، ويُعيد أيضاً قوماً من أعدائه لينتقم منهم وينالوا بعض ما يستحقونه من العقاب في الدنيا من القتل على أيدي شيعته والذل والخزي بما يشاهدون من علو كلمته، ولا يشك عاقل أن هذا مقدور لله تعالى غير مستحيل في نفسه، وقد فعل الله ذلك في الأمم الخالية ونطق القرآن بذلك في عدة مواضع... إلا أن جماعة من الإمامية تأوّلوا ما ورد من الأخبار في الرجعة، إلى رجوع دولة الحق، دون رجوع الأشخاص...
- وبحسب هذا الرأي الأخير، فإن الآية لا تتحدث عن كل الكافرين، بل عن فئة منهم.
- ملاحظة: سياق الآيات لا يساعد على التأويل والرأي الأخير، فالحديث عن المشركين لا عن فئة من المسلمين دخلوا في صراع مع مدرسة أهل البيت (ع).
ذَلِكُم بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَـفَرْتُمْ وَإِن يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُواْ فَالْحُكْمُ للَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ 12
- فهل ستنجح محاولتهم في الاستعطاف والاعتراف بالخروج من العذاب؟ كلا.. لماذا؟
- ذَلِكُم بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وجحدتم وحدانيته وَإِن يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُواْ معتبرين أن الله أحد الإلهة، أو كبيرها، أو هو الخالق من بينها، وسائر الآلهة تقوم بدور إدارة الوجود والربوبية.
- نلاحظ هنا التفات من الفعل الماضي كَفَرْتُمْ إلى المضارع تُؤْمِنُواْ وكأنها إشارة لاستمراريتهم في الإيمان بالآلهة المزعومة التي يدّعون أنها شريكة لله عز وجل، لأن المضارع يدل على الاستمرار.
- فَالْحُكْمُ للَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ لا إليكم ولا إلى غيركم، لا معارض له ولا ناقض، فهو سبحانه الذي يحكم على عباده الكافرين المشركين الخاطئين بما يستحقونه، لأنه العليّ الذي علا على كل خلقه، ولا يستطيع أي موجود أن يستعلي عليه وعلى حُكمه، وهو الكبير الذي يصغر كل الوجود أمام حجم قدرته وعظمته.