شرح نهج البلاغة - الخطبة الرابعة - القسم الثالث


ومن خطبة له (عليه السلام) [وهي من أفصح كلامه (عليه السلام)،وفيها يعظ الناس ويهديهم من ضلالتهم، ويقال: إنه خطبها بعد قتل طلحة والزبير]:
(... أَقَمْتُ لَكُمْ عَلَى سَنَنِ الحَقِّ في جَوَادِّ الـمَضَلَّةِ، حيْثُ تَلْتَقُونَ وَلا دَلِيلَ، وَتَحْتَفِرُونَ وَلا تُميِهُونَ.اليَوْمَ أُنْطِقُ لَكُمُ العَجْمَاءَ ذاتَ البَيَان! عَزَبَ رَأْيُ امْرِىء تَخَلَّفَ عَنِّي، مَا شَكَكْتُ في الحَقِّ مُذْ أُرِيتُهُ! ).
شرح معنى الفقرات
(... أَقَمْتُ لَكُمْ عَلَى سَنَنِ الحَقِّ في جَوَادِّ الـمَضَلَّةِ، حيْثُ تَلْتَقُونَ وَلا دَلِيلَ، وَتَحْتَفِرُونَ وَلا تُميِهُونَ).
السَنَن: جادة الطريق والواضح منها.
جوادّ: جمع جادّة.
أرضٌ مَضَلّة: يضل سالكها.
تُميِهُونَ: تستخرجون الماء من بطن الأرض.
انظروا إلى أهمية وحيوية دور المرشد للمسافرين حين يسلكون الطرق القابلة لأن يضلّوا فيها فلا يصلون إلى حيث يريدون، ويبحثون عمّن يدلّهم على الطرق فلا يجدون أحداً، ويحتفرون الأرض بحثاً عن الماء ليرووا عطشَهم، فلا يحصلون عليه. إن قيمة هذا المرشد بالنسبة إليهم لا تُقدَّر بثمن، لاسيما حين يكون إنساناً حريصاً على هداية المسافرين، فيقف في المكان السليم، ويرشدهم إلى الطريق الصحيحة بكل عناية. إن لمثل هذا المرشد الذي يجهد نفسه ويقوم بهذا الدور تطوّعاً قيمة كبيرة جداً للمسافرين، ويستحق منهم كل ثناء وشكر وتقدير.
لقد قمت أنا بدور هذا المرشد في هدايتكم إلى الحق، وكنت حريصاً في أداء هذه المهمة لضمان هدايتكم فوقفت لكم على جادة الحق ومنهجه، حيث طرق الضلال كثيرة، وأنتم تائهون فيها تلتقون، ولا دليل لكم،
وتبحثون عن وسيلة لنجاتكم من الهلكة والضياع فلا تظفرون بها... وهذه كلها استعارات.
(اليَوْمَ أُنْطِقُ لَكُمُ العَجْمَاءَ ذاتَ البَيَان! )
العَجْمَاءَ: البهيمة، تُعرَف بذلك لأنها لا تنطق.
ذاتَ البَيَان: التي تُبيّن مرادَها.
تصوّروا لو أن بهيمة تصدر عنها أصوات وحركات ذات معنى ودلائل، ولكن مَن لا يدرك منطقها لن يفهم مرادَها
ولن يبالي لما تشير إليه، بينما سيدرك ذلك من يعرف منطقها، كما جاء بشأن داود وسليمان (ع): (وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ).
لأولي الألباب، فهي بالنسبة إليهم كما لو كانت تنطق بلسان فصيح.
إن المضامين الخافية في هذه الخطبة على البعض ممّن لا بصيرة لهم، هي في نفس الوقت جلية واضحة ومفهومة لأولي الألباب، فهي بالنسبة إليهم كما لو كانت تنطق بلسان فصيح.
ولذا، فإنني سأقوم بشرح وبيان هذه المضامين الخافية على الذين لا بصيرة لهم. وخلاصة ذلك: (عَزَبَ رَأْيُ امْرِىء تَخَلَّفَ عَنِّي) عَزَب: بَعُد وغابَ. لقد ابتعد عن الحق والهداية مَن تخلّفَ عنّي ولم يلحقني.
والسبب في ذلك أنني مع الحق على طول الطريق، لأنني: (مَا شَكَكْتُ في الحَقِّ مُذْ أُرِيتُهُ!). لقد كنت على بصيرة من أمري منذ أن هداني الله لذلك، ولم يداخلني فيه أيُّ شك أو تردُّد. ولذا حريٌّ بمن يلحقني أن يكون في طريق الحق على الدوام.فكما قال رسول الله (ص): (عليّ مع الحق والحق معه يدور معه حيث دار، لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض).