خطبة الجمعة 4 ربيع الأول 1444: الشيخ علي حسن : الخطبة الثانية: تشظّي الهويّة


- هُوية الفرد، أو هُوية مجموعة معينة من الناس، تتشكّل من عدد من الأمور التي تميّز هذا الفرد أو هذه المجموعة عن غيرها.
- في البطاقة المدنية الخاصة بك، تجد مجموعة من المعلومات، الاسم، تاريخ ميلادك، عنوان السكن الخاص بك، رقمك المدني، وغير ذلك من المعلومات التي تميّزك عن الآخرين، ولذا تُعرَف هذه البطاقة بعنوان الهُوية الشخصية.
- ومثل البطاقة المدنية، هناك أمور تُميّزك عن الآخرين، فأنت لك هُوية إسلامية، لأنك تتشهد الشهادتين، وتصلّي الفرائض الخمس، وتحجّ إلى الكعبة المشرّفة، وهذا يميزك عن المسيحي واليهودي والبوذي.. ولك هُوية وطنية، لأنك ابن هذا الوطن، وتمتلك جنسيته، وتحمل جواز سفره، ولك حقوق سياسية وخدماتية معينة.. إلخ.
- الهُوية الدينية أو الوطنية أو غيرهما، قابلة لأن تتشظّى.. أن تتهشّم، فتضعف. كما أنها قابلة لأن تُفقَد تماماً، وهذا ما يدفع المرجعيات الدينية أو السياسية أو الاجتماعية التي تتحمّل مسئوليتها للتدخّل بطرق مختلفة من أجل الحفاظ على هُوية الناس، أو ما تبقّى منها.
- وهذا قد يكون من الأسباب التي دفعت النبي (ص) لأن يأمر المسلمين في المدينة بأن يصبغوا شعورَهم ولحاهم، ليحافظوا على هُويتهم بتميّزهم عن اليهود الذين كانوا يشاركونهم الحياة في المدينة المنورة، حين وجد أن المسلمين بدأوا يذوبون في ذلك المجتمع اليهودي، تأثّراً بما لديهم من علم، وتاريخ ديني توحيدي ممتد، ونبوّات كثيرة، وثروات، وغير ذلك.
- في الحكمة 17 من نهج البلاغة: (سئل [ع] عن قول النَّبيّ [ص]: «غَيِّرُوا الشَّيْبَ، وَلاَ تَشَبَّهُوا بِالْيَهُودِ. فَقَال [ع]: إِنَّمَا قَالَ [ص] ذلِكَ وَالدِّينُ قُلٌّ، فَأَمّا الْآنَ وَقَدِ اتَّسَعَ نِطَاقُهُ، وَضَرَبَ بِجِرَانِهِ) أي أصبح الإسلام قوياً ممتداً (فَامْرُؤٌ وَمَا اخْتَارَ).. وهناك أمثلة أخرى.
- مكوّنات الهُوية لا تأتي عادةً من فراغ، بل هي ناتجة عن حاجة معينة... الجو عندنا في الكويت حار جداً والشمس قوية، ولذا من هويتنا الوطنية ارتداء الغترة، لحاجتنا لحماية الرأس من العامل الجوي، كما أن ارتداء العقال لم يأتِ من فراغ، لأنه وسيلة تثبيت الغترة على الرأس.
- نعم، عندما توفَّر التكييف والتنقّل بالسيارة وما إلى ذلك، فقَدَ هذا الزي هدفه الأساس، وتحوّل إلى وسيلة للتزيّن ومن الكماليات أكثر من كونه وسيلة ضرورية للوقاية من العامل الجوي، ولذا صار عبئاً بالنسبة لكثيرين، وذلك حين يغرقونه بالنشاء، وصار العقال مجرد شكل وفَقَد وظيفة التثبيت، ولذا صار الفرد في خدمة الغترة والعقال، وفي سعي دائم للمحافظة على توازن الرأس، بدلاً من أن يكون هذا الزي في خدمته... صار سبباً لأن يفقد بريقَه عند الشباب.
- مكوّنات الهُوية ذات مستويات، وفقدان بعضِها متفاوت التأثير:
- فمنها ما إذا فقدناه قد يكون له أثر سلبي بسيط، كمثال الغترة ضمن الظروف الحالية.
- في المقابل، عندما حاول أحد الرحالة الغربيين أن يقوم برحلة استكشافية في القطب الشمالي مرتدياً ثياباً ثقيلة جدّاً من الصوف الخالص، كاد أن يهلك وفشلت تجربته.. وحين أدرك أن اللباس المصنوع من فروة الحيوانات التي تعيش في تلك المنطقة وتشكّل جزء من هُوية السكان المحليين لم تأتِ من فراغ، فاتخذها لباساً.. نجحت التجربة.
- اللغة جزء مهم جداً وحساس جداً من الهُوية.. وبمقدار قربنا أو ابتعادنا عن لغتنا، نتمسّك أو نفقد عناصر أخرى مهمّة من مكوّنات هُويتنا، بما في ذلك دينَنا وقيمَنا وحضارتَنا وتاريخَنا... وبعبارة أخرى: المحافظة على تماسك الهوية أو تشظّيها رهين مدى قوة الارتباط باللغة الأم.
- الفرنسيون عندما استعمروا أجزاء من الشمال الأفريقي المسلم، كان عنصر اللغة مدخلهم لتحقيق التشظّي في هوية أبناء تلك المناطق، ومن ثم استبدالها بعناصر الهُوية الفرنسية، بما في ذلك فكّ الارتباط بالإسلام.
- وهذا ما دفع ببعض مَن تحمّلوا المسئولية التاريخية هناك للتركيز على تعليم القرآن وتشكيل مدارس التحفيظ بشكل مكثّف، وذلك في مواجهة تلك الحملة على الهُوية الوطنية والإسلامية.
- والعكس صحيح، فعندما تنامى الحس القومي الفارسي في القرن الرابع الهجري، كان المدخل لتحقيق الاختراق هو السعي لإحياء اللغة الفارسية على حساب اللغة العربية، وأُوكل للشاعر الفردوسي أن يقوم بتأليف الشاه نامه، وهي قصيدة شعرية ملحمية فارسية، سعى فيها الفردوسي أن يوظّف المفردات الفارسية فقط، ويخلّص شعره من أية كلمة عربية دخلت في القاموس الفارسي، ومع هذا فقد فشل -كما قيل- وذلك بتغلغل قرابة 300 مفردة عربية إلى النص.
- اليوم، مع بداية العام الدراسي الجديد، وبلحاظ ما أصاب التعليم الحكومي في المدارس مِن وَهْن على مدى ثلاثة عقود تقريباً، اتجهت نسبة ملحوظة من الأسر لتسجيل أبنائها في المدارس الخاصة، لاسيما الأجنبية منها، وثنائية اللغة التي تأتي فيها اللغة العربية كلغة ثانوية، وهو ما سيترك أثراً أكيداً على اللغة الأم واللهجة المحلية على حدٍّ سواء، وهذا الأثر السلبي لن يتوقف عند حدِّ الأثر اللغوي فحسب، بل سيترك بصماتِه الواضحة على صعيد الدين والفكر والثقافة والقيم والسلوكيات الفردية والعامة وغير ذلك، وبمعنى آخر، سيؤدّي إلى تشظّي هوية الأبناء لاحقاً، ولربما إلى حدِّ فقدانها، الأمر الذي يستدعي من أولياء الأمور العناية بالتركيز على إحياء الجانب اللغوي عند الأبناء من خلال البرامج التعليمية الموازية والمكثّفة، وتحفيزِهم على التواصل الفاعل مع العربية لغةً ولهجة.