شرح نهج البلاغة الخطبة الرابعة القسم الثاني


- نكمل كلامنا حول الخطبة الرابعة في نهج البلاغة والتي عنونها الشريف الرضي بهذا العنوان (ومن خطبة له [ع] وهي من أفصح كلامه [ع]، وفيها يعظ الناس ويهديهم من ضلالتهم، ويقال: إنه خطبها بعد قتل طلحة والزبير).
- أشرت في الأسبوع الماضي إلى أن هذه الخطبة مقتطعة من خطبة طويلة كانت مشهورة، وشكك ابن أبي الحديد في صحة نسبة بعض أجزائها.
- وقد اعتدنا منه (ع) الاسترسال في الكلام، ولكن النص الذي نتناوله هنا مختلف من حيث أسلوب البيان، وهو من الأسباب التي دفعت الشريف الرضي المقطع -وهو المتخصص- إلى أن يصفه بأنه (من أفصح الكلام).
- على موقع (في رحاب نهج البلاغة)، المعرّف بأنه موقع خاص تم افتتاحه فی یوم الغدیر الأغر سنة ١٤٢٥ هجریة المصادف ٢٠٠٤ میلادیة، وهو من المواقع التابعة لمرکز آل البیت (علیهم السلام) العالمي للمعلومات، ومن أهدافه تحقیق ونشر ما یرتبط بکتاب (نهج البلاغة). كتب المعلّق -مع الاختصار-:
- (أمامنا الآن نص فنّي تفرّد به الإمام (عليه السلام) من حيث النوع الأدبي الذي ينتسب إليه هذا النص) ثم يتكلّم عن شكلين من الشعر دخلا الأدب العربي تأثّراً بالأدب الأوروبي، وهو الشعر الحر، والشعر المنثور، ولم يكونا مألوفين عند العرب إلا في القرن العشرين.
- هذا اللون من الشعر المتحرر من (الوزن): (يُعوَّض عن الإيقاع الجاري بـإيقاع داخلي، وتصاغ العبارة بنحو مضغوط ومنتقى، وتصاغ الفكرة وفق رموز مكثفة مركزة).
- وعندما نتوقف عند النص الذي نشرحه من كلمات الإمام علي (ع) نجده مقسماً إلى (مقاطع متفرقة، كل مقطع يتناول فكرة مركزة، كل مقطع تنتظمه صورتان أو ثلاث، كل صورة تصاغ وفق عبارة مضغوطة منتقاة، كل عبارة مشحونة بـرموز واستدلالات وتضمينات مكثفة... كل قسم يوحي وكأنه مقطع مستقل، لكنه في الحصيلة النهائية للنص يُجسد نقاطَها التي تبدأ منها، وتنتهي إلى‌ المركز العام الذي تصب فيه فكرة النص).
- الفقرة التي سأتناول جانباً منها اليوم بالتوضيح وتتميّز بما ذُكر أعلاه هي: (مَا زِلتُ أَنْتَظِرُ بِكُمْ عَوَاقِبَ الغَدْرِ، وَأَتَوَسَّمُكُمْ بِحِلْيَةِ الـمُغْتَرِّينَ، سَتَرَني عَنْكُمْ جِلْبَابُ الدِّينِ، وَبَصَّرَنِيكُمْ صِدْقُ النِّيَّةِ، أَقَمْتُ لَكُمْ عَلَى سَنَنِ الحَقِّ في جَوَادِّ الـمَضَلَّةِ، حيْثُ تَلْتَقُونَ وَلا دَلِيلَ، وَتَحْتَفِرُونَ وَلا تُميِهُونَ...).
- وبرأيي أن النص متأثّر بالأسلوب القرآني، لاسيما في السور المكية الأولى، بشكل واضح.
- نعود إلى فقرات النص لشرحها، ومن الضروري أن أعود وأذكّر بالظرف الذي صدر فيه الكلام، لندرك سبب الهجوم العنيف والصفات السلبية التي يثيرها الإمام في كلامه بحق المخاطَبين.
- وعلق ابن أبي الحديد على هذه الكلمات بتشبيهها بكلمات النبي (ص) (إن هذه الخطبة خطبها بعد مقتل طلحة والزبير، مخاطباً بها، لهما ولغيرهما من أمثالهما، كما قال النبي صلى الله عليه وآله يوم بدر، بعد قتل من قتل من قريش: يا عتبة بن ربيعة، يا شيبة بن ربيعة، يا عمرو بن هشام) وأنها جاءت في هذا السياق.
- (مَا زِلتُ أَنْتَظِرُ بِكُمْ عَوَاقِبَ الغَدْرِ) يقول: كنت مترقّباً ومتوقّعاً غدرَكم.
- (وَأَتَوَسَّمُكُمْ بِحِلْيَةِ الـمُغْتَرِّينَ) أي أرى عليكم آثار الغافلين المخدوعين. مع ملاحظة أن الإمام استعمل كلمة (حلية) وهي للتزيّن، وكأنه يقول أنكم أظهرتم الجانب الذي كنتم مخدوعين فيه، وكنتم تعتبرونه شيئاً إيجابياً تفتخرون به، وكأنه بمثابة الحِلية والزينة التي يتزيّن بها المرء.. وكأنه يقول أن سبب ترقبي وتوقّعي منكم هذا الغدر أنكم كنتم تعيشون الغفلة.
- (سَتَرَني عَنْكُمْ جِلْبَابُ الدِّينِ) إسلامكم منعني من المبادرة تجاه نوايا الغدر عندكم ما لم تبادروا بموقفٍ يستوجب ردّة الفعل المناسبة. وكأنه يشير إلى التزامه بقول النبي (ص): (كلُّ المسلِمِ على المسلِمِ حرامٌ ، دمُهُ ، ومالُهُ ، وعِرضُهُ).
- (وَبَصَّرَنِيكُمْ صِدْقُ النِّيَّةِ) فعدم إقدامي على شيء تجاهكم لم يكن لغفلتي عنكم، فقد أبصرت وأدركت نوايا الغدر عندكم.. والذي مكنني من ذلك صدق نيّتي، وفي الحكمة 309 من نهج البلاغة: (اتقوا ظنون المؤمنين، فإن الله سبحانه جعل الحق على ألسنتهم) مع أنها ظنون، ولكن هناك هداية إلهية وإلهام وبصيرة توفّقهم لصحة الظنون.
- ومن بلاغة كلامه هنا أنه ذكر الحلية ثم ذكر الجلباب، والحلية تأتي عادة فوق الجلباب، ولذا كان الأمر مكشوفاً وواضحاً للإمام.