خطبة الجمعة 14 محرم 1444 : الشيخ علي حسن : الخطبة الثانية: كلّكم إبراهيم

- في أجواء إحياء ذكرى عاشوراء هذا العام، جاء العدوان الصهيوني الأخير على غزة ونواحٍ من الضفة الغربية محمّلاً بالكثير من المآسي، بدءً من قتل عدد من قادة المقاومة الفلسطينية غدراً، مروراً بقتل وجرح المدنيين العُزَّل، أطفالاً ونساءً وشيوخاً.. أكثر من خمسين شهيداً خلال أسبوع العدوان، قرابة نصفهم من الأطفال، وعشرات الجرحى... وانتهاء بالتدمير والحصار الخانق.
- والدة أحد الشباب القتلى عمره 17 سنة، تقول أن هذا ولدها الوحيد الذي انتظرت 15 سنة لتوفّق للحمل به، وربّته - بحسب تعبيرها - برمش العين، وكانت تعدّ العدّة لتزوّجه مبكراً، وإذا بيد الغدر الصهيونية تأخذه منها في لحظة... وتضيف بكل حزن: (من سيناديني [يا أمي] بعد الآن؟).
- مشهد آخر لعروس تبكي عريسها الذي هدم الاحتلال المنزل الذي يسكنه على رأس أصحابه بالصواريخ في غزة، قبل ثلاثة أيام من يوم زفافه، ووجدوه محتضناً أمه في محاولة منه ليحميها من الانفجار الذي دمّر المنزل بشكل كامل، وحوّله إلى مجرّد ركام من الحجارة.
- بالطبع فإنّ الحديث عن شهداء العدوان لا يتوقّف عند حدّ عددهم، بل هناك المآسي والتبعات التي تترتّب عادة بعد ذلك، من ترمّل، ويُتم، وفقدان المعيل الوحيد للأسرة، وفقدان المأوى، وغير ذلك، علاوة على الحصار الذي تعيشه غزة منذ سنوات، والفقر الشديد الذي يعاني منه أهلها.
- ولكننا نعلم أنّ من رحم المآسي تولَد البطولات، ويأتي النصر والفرج ولو بعد حين... قال تعالى: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ) [البقرة:214].
- عندما تقف والدة أحد القادة الأبطال في الضفّة الغربية وقد قاوم الصهاينة حتى قُتل شهيداً فتقول بكل اعتزاز وقوة ورباطة جأش: (إبراهيم قتلوه؟ بالعكس.. هناك 100 إبراهيم غيره.. كلكم إبراهيم.. إبراهيم انتصر.. إبراهيم ذهب عند حبيبه النبي محمد.. الحمدلله) فإنّ هذه رسالة مفادُها أن شعباً فيه مثل هذه الأم البطلة، هذا الشعب لن يموت مهما خنقه الاحتلال، ومهما طغى وعربد.
- وهناك لقطة مصوَّرة لهذا البطل وهو يقاوم قبيل استشهاده، فيأتي أحد أصحابه ويجرّه بعيداً خوفاً عليه، فإذا به يدفع صاحبه ويعود للنزال وحيداً وجهاً لوجه مع الصهاينة... وهذه رسالة مفادُها أن شعباً فيه مثل هذا البطل، هذا الشعب لن يموت مهما قمعَه الاحتلال، ومهما استكبر وأجرَم.
- ومن المعيب أن تأتي بعض وسائل الإعلام العربية وتتحدث عن اغتيال إسرائيل لهذا البطل المقاوم.. المسألة لم تكن اغتيالاً.. بل كان يقاوم، وكان في حالة كرٍّ وفرٍّ وملاحقة.. ولكن هكذا تعوّدنا التلاعب بالألفاظ لتزييف الحقائق، أو الاستسلام لما تُمليه الآلة الإعلامية الصهيونية.
- وإذا كان الإعلام يركّز على جانب المأساة فقط من العدوان الصهيوني، فهناك جوانب مهمة يجب تسليط الضوء عليها، ومن المهم أن نلتفت إليها، وإن حاول الصهاينة إخفاءها، منها:
1. أن الكيان الصهيوني فشل في إيقاف المقاومة التي نهضت في الضفّة الغربية والقُدس مساندةً لإخوانهم في غزّة، وإرباكاً للعدو، وفتح أكثر من جبهة في آن واحد... وهذه نقطة مهمة.
2. وفشل أيضاً في مشروعه لإحداث شرخ ولربما اقتتال بين فصائل المقاومة الفلسطينية نفسها، من خلال عزلها عن بعضها البعض، عملاً بسياسة فرّق تسد، وعلى طريقة (أُكِلت يوم أكل الثور الأبيض)، رغم أنّ كلّ ماكنته الإعلامية كانت تدفع بهذا الاتجاه.
3. لم يحتمل الصهاينة الردّ المدوّي للمقاومة في غزة، على الرغم من أنه جاء من فصيل مقاوم واحد فقط، وسارع لقبول الوساطة للهدنة بعد أن كان يتكبّد في كل يوم قرابة 45 مليون دولار. كل صاروخ أطلقته إسرائيل لصد صاروخ للمقاومة كان يكلفها 60,000 دولار، في مقابل 300 دولار هي تكلفة صاروخٍ للمقاومة.
4. ما جرى أكّد إحدى نقاط الضعف القاتلة عند الكيان الصهيوني، وهي أنه لا يحتمل مواجهة طويلة المدى، ولا يحتمل الخسائر البشرية ولا الخسائر المالية.
- إن هذه الصور التي تداعت في أجواء العدوان الصهيوني الأخير على الفلسطينيين، في جانبيها المأساوي والبطولي لتَستدعي بعضاً من أحداث كربلاء في عاشوراء الحسين (ع)، وصورَ البطولة والمأساة فيها، ولذا نقول بوضوح: كما انتصر شهداء كربلاء وانتصرت قضيتهم، سينتصر بإذن الله شهداءُ فلسطين وستنتصر قضيتهم، لأنها سنّة الله في الحياة: (وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمًا وَلَهُمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ) [آل عمران:178]. اللهم انصر الإسلام وأهله واخذل الكفر والنفاق وأهله.