يا سرّ كربلاء : ليالي عاشوراء 1444 - المجلس العاشر

سِبطُ النبيِّ قد أوَى إلى الكهف الحصين.. حيثُ مَشهدِ جدِّه الأمين.. وقد طال عهدُ الفراق.. وزادت لوعةُ الاشتياق..
وتوجّهت نفسُه الشريفةُ إلى ربِّها في ابتهالِ الخاشعين: (رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا).
ووقَفَ السبطُ -بعد ركعاتٍ صلّاها- متأمِّلاً باحثاً عن قرارٍ (يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ).. ولله فيه رضا.. فأكثرُ الناس: (إِن يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِن يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً)..
أمّا الحسين فمِن الأُولِي تَحرّوا رشَداً... وأنّى له أن يَختار سوى ذلك، وهو سيدُ شبابِ أهلِ الجنة؟!
(اللَّهُمَّ إنَّ هذا قَبرُ نَبِيِّكَ مُحَمَّدٍ، وأنَا ابنُ بِنتِ مُحَمَّدٍ، وقَد حَضَرَني مِنَ الأَمرِ ما قَد عَلِمتَ، اللَّهُمَّ وإنّي أُحِبُّ المَعروفَ، وأكرَهُ المُنكَرَ،
وأنَا أسأَلُكَ يا ذا الجَلالِ وَالإِكرامِ بِحقِّ هذَا القَبرِ ومَن فيهِ مَا اختَرتَ مِن أمري هذا ما هُوَ لَكَ رِضىً).
بهذه الكلمات استخار الحسينُ ربَّه في ما عسى أن يكون القرارَ الأصوبَ في كيفية مواجهة يزيد بعد أنْ أصرّ هذا الطاغية على أنْ تُؤخَذ منه البيعة،
ظلماً وعدواناً واستكباراً في الأرض، وإلا فإنّ الفيصل هو السيف، ولا شيء غير السيف!
وهل يخاف شبلُ عليٍّ من الموت، وهو القائل: (واللهِ ما يبالي ابنُ أبي طالب إن وقع على الموت أو وقع الموت عليه... واللّه لابنُ أبي طالب آنس بالموت من الطفل بثدي أمه)؟
محالٌ أن يكون الأمر كذاك، ولكنها لحظةُ القرار الحاسمِ في تحمّلِ مسئولية مستقبلِ أمّة.. لا مستقبل فردٍ، ولا أسرةٍ، ولا جماعة.
مستقبلُ أمةٍ أريد لها أن تُمسَخَ هويتُها، ويَضيعَ دينُها، وتُميَّعَ قِيمُها، وتعودَ إلى جاهليتِها الأولى بدِثارٍ جديدٍ يَخدعُ العيون، ويُموِّهُ الحقيقة، ويسفِّهُ العقول...
جاهليةٍ ظاهرُها الإسلام، وباطنُها الظلمُ، والفسقُ، وهتكُ الحرُمات... ومَن يأبَى، فلا مصيرَ له عند آلِ حربٍ إلا حدُّ السيف، أو لعنةُ النفي،
أو غيابةُ الجُب، حيث يُنسَى المسَلَّمُ إليه معنى الشمسِ، وإحساسَ الدفءِ، ونعمةَ النور.
بروح المسئوليةِ هذه، ناجى الحسينُ ربَّه واستخارَه عازماً على اتخاذ سبيلِ الرُّشد سبيلاً، أياً كان، ومهما كلّف القرارُ من تضحيات، على مستوى النفسِ والمالِ والولَد...
فالموت في سبيل الله -عند أهل هذا البيت – أحلى من العسل، وأقربَ إلى النفسِ من زهرةِ الحياةِ الدنيا بكلِّ زُخْرُفِها وَزِبْرِجِها، وبكلِّ إغراءاتها وإغواءاتِها!
وشدَّ الحسينُ رَحلَه، في نهايةِ ذلك الموقفِ، مُسرِياً نحو المواجهة.. فإما النصر.. وإما الشهادة، فلا معنى للمداهنة، وإنْ ودّوا لو يُدهن فيُدهون..
ولا صلاحَ في المهادنة، وإن كانت أقربَ للنفس الباحثة عن السلامة.. ولا خيرَ في العيشِ إنْ كانَ الذّلُّ قَرينَه، وهيهات من الحسين الذلّة..
يأبى الله له ذلك ورسولُه والمؤمنون، وحجورٌ طابت وطهرت، وأنوفٌ حمية، ونفوسٌ أبيّة من أن يؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام... هكذا كان قرارُه حاسماً، وموقفُه حازماً.
وفي مكةَ البلدِ الأمين، وعند البيتِ الحرام، نوشد السيدُ السبطُ أن يقبلَ بالأمرِ الواقع، وأن يخضعَ لميزانِ القوة، وأنْ يشتريَ حياتَه بالصمت، أو بالاحتجابِ خلفَ أستار العُزلة،
أو بأن يلجأَ إلى (مَهجَرٍ) يأمن فيه على نفسِه وعِيالِه.
حُسينُ... أَعْرِضْ عَنْ هَذَا، ودع محبّيك يبحثون لك عن خلاصٍ، ويسعون لكَ في وساطات تُكتَبُ لك فيها السلامة..
بمثل هذا تلخّصت كلماتُ جمعٍ من أحبابِ الحسين ليُبقوا عليه... فخوّفوه بمستقبلٍ كئيب... وذكّروه بمصير أبيه وأخيه..
وحذّروه من خيانةِ قومٍ لم يُعهَد منهم الوفاء، ولم يَسلمْ من يَدِ غدرِهم أحَد، وإنْ ارتفعَ شأنُه، أو علَت همّتُه، أو قرُبَ من الله منزلُه!
وذهبت مناشداتُهم أدراجَ الرياح، إذ لم يفهموا مَنطِقَه... ولم يعوا ما يريد... إنهم يريدونه لأنفسِهم... وأما الحسين فكان يريدُهم لله...
وما بين هذا وذاك بحثٌ طويل، وكلامٌ كثير، وبون شاسع... ولم يكن ريحانةُ النبي يملكُ ما يكفي من الوقت كي يدخلَ معهم في سجالاتٍ يعرفُ خواتيمَها، ويَخبُرُ نهاياتِها...
فآثرَ أن يجيب أحدَهم تارة بقوله: (جزاك الله يا ابن عم خيراً، مهما يقضي الله مِن أمر يكن)... وأخرى بقوله: (رأيت رسول الله [ص] أمرني بأمر وأنا ماضٍ له)..
وثالثة بقوله: (لأنْ أُقتَل بمكانِ كذا وكذا أحبّ إليّ مِن أنْ أُقتَل بمكةَ وتُستحلّ بي.. إنّ أبي حدّثني أن لها كبشاً يَستحلُّ حرمتَها، فما أحبُّ أنْ أكونَ أنا ذلك الكبش).
ولست أشك -ولا يشكُّ عاقل- أنّ ما أخرج الحسين وجعله ماضيَ العزم لم يكن -في الأساس- شيئاً مِن هذا، ولكنْ لكلِّ مقامٍ مقال.
وانطلَق الركبُ، مودِّعاً البيتَ الحرام، مُيمِّماً وجهَه نحو الكوفة، حيث جاءت رسُلُها داعيةً مستبشرة، تنتظرُ على أحرّ من الجَمْر لواءَ شبلِ عليّ، زاحفاً نحوَها،
مُطهِّراً ثَراها المصطَبِغِ بدُكنَةِ الظلمِ، وحُمرةِ دم المظلومين، والمدنَّسِ بأقدام آلِ أميةَ وأزلامِهم...
وهناك، يصولُ ابنُ عقيلٍ ويجولُ، يجمعُ الأنصار، ويأخذ المواثيق، ويعدُّ العدَّة لمقدَمِ السيدِ السبطِ، ولواءِ التحرير.
وغيرَ بعيدِ عن مكة.. حيثُ أرضِ الصِّفاحِ، واقَفَ الفرزدقُ حُسَيناً، وأصدقَه الكلامَ إذ قال: قُلوبُ النّاسِ مَعَكَ، وسُيوفُهُم مَعَ بَني أمَيَّةَ!
وإن كان لهذه الكلمات أن تفتّ في عضدِ أحد، وتجعله يفكر ألفَ مرّة قبل أن يُقدِمَ على ما نوى، فإنها ما كانت لتزلزل ذلك العزم الحسيني الراسخ في المضيِّ قُدُماً نحو الغاية المقدّسة والهدفِ السامي...
فأجابه قائلاً: (للهِ‌ِ الأَمرُ، وَاللَّهُ يَفعَلُ ما يَشاءُ، وكُلَّ يَومٍ رَبُّنا في شَأنٍ. إنْ نَزَلَ القَضاءُ بِما نُحِبُّ فَنَحمَدُ اللَّهَ عَلى‌ نَعمائِهِ، وهُوَ المُستعانُ عَلى‌ أداءِ الشُّكرِ، وإن حالَ القَضاءُ دونَ الرَّجاءِ،
فَلَم يَعتَدِ مَن كانَ الحَقَّ نِيَّتُهُ، وَالتَّقوى‌ سَريرَتُهُ).
وضوحٌ ما بعده وضوح، وعزيمةٌ ما بعدها عزيمة، وتوكُّلُ ما بعده توكل.
الله أكبر.. الله أكبر.. الله أكبر.. الله أكبر.. أشهد أن لا إله إلا الله.. أشهد أن لا إله إلا الله.. ويتعالى نداء الأذان لصلاة الظهر عند ذي حُسَم،
وما هي إلا أيام قلائل ويصلُ الركبُ إلى الكوفة، لولا أنْ حالَ الرياحي
-بفرسانه الألف- بين الحسين ومقصدِه، بأمرٍ من سيدِه المتربِّعِ على عرش الكوفة،
وقد أسكرتْه نشوةُ النصرِ على ابن عقيلٍ وهانئ، وأعدّ العدّة للقضاء على الركب الحسيني بآلافِ المقاتلين من الأوباشِ والمرتزقةِ وعبيدِ المالِ والأسياد.
ولَمّا حَضَرَتِ الإِقامَة، خَرَجَ الحُسَينُ يملؤ المكانَ هيبةً ووقاراً، وطيّب أجواءَه بأنفاسِ روحانيتِه، وغطّى بنورِ بهائه شمسَ الظهيرة..
فَحَمِدَ اللَّهَ وأثنى‌ عَلَيهِ، وأقام الحُجَّةَ على الحُرّ وفرسانِه، ولسانُ حاله: (قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَّكُم بَيْنَ يَدَيْ
عَذَابٍ شَدِيدٍ، قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ).. ولكنهم آثروا السكوت، وبقي الصمت – بعد الصلاة- سيدَ الموقف،
إذ أخَذَ كُلُّ رَجُلٍ مِنهُم بِعِنانِ دابَّتِهِ وجَلَسَ في ظِلِّها، والجميع يترقّب ما قد يحدث، فهل سيشهد هذا الجبلُ أوّلَ مواجهةٍ بين الحسين وأعدائه؟ أم سيرعوي القومُ ويكونون عوناً له ضد آلِ أمية وابنِ زياد؟
فَلَمّا كانَ وَقتُ العَصرِ أمَرَ الحُسَينُ أن يَتَهَيَّأوا لِلرَّحيلِ بعد الصلاة، وأقام عليهم الحجّةَ من جديد، وذكّرهم بكتبِهم التي دعتْه للقدوم إلى الكوفة، فأنكر الحرُّ معرفتَه بشئ من الخبر،
وكاد الموقفُ أن يتحوّل إلى صدامٍ مسلّح عنيف... وانتهى المشهد بالتوافق على أن يأخذ الحسينُ طَريقاً لا تُدخِلُه الكَوفَةَ، ولا تَرُدّه إلَى المَدينَةِ،
بانتظارِ ما تحملُه الأيامُ القادمةُ من مراسلاتٍ ومساعٍ قد تُغيّرُ مسارَ الأحداث، وقد تَكونُ حُبلى بالمفاجآت!
وسار الحُسَينَ في أصحابِهِ.. وَالحُرُّ يُسايِرُهُ، حتى حطّ الركبُ في كربلاء... المحطةِ الأخيرة...
وحيل بين الحسين وصحبه وبين الماء، وتحطّمت كلُّ المفاوضات على صخرةِ الإصرارِ بأن يُسلِمَ الحسينُ نفسَه ليزيد، ويبايعَه..
وابنُ سعد.. القائدُ الباحثُ عن المالِ والجاهِ والشهرةِ والمَقامِ يحتالُ لذلك بكل حيلة، والحسينُ -كلّما ازدادت عليه الضغوط- ازداد صموداً وإباءً.
حتى إذا كان العاشر من المحرّم، دقّت طبولُ بني أمية، وما أكثرَ الراقصين على إيقاعِها الشيطاني، اسْتِكْبَارًا فِي الأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ، طمَعاً في حُطامٍ عفّتْ عنه أنفسٌ كريمة،
آثَرَتْ أن تُوطأ بسنابِكِ الخيل، وتُقطّعَ بالمهنّديّات، وتكونَ غرضاً لنصْل الرّماح، ولا تُسلِمَ عِزَّها.. سيّدَها.. مَولاها.. وقائدَها.. سليلَ الحجورِ الطيّبة، والأنوفِ الحميّة،
والنفوسِ الأبيّة، إذ آثَر مصارعَ الكِرام على طاعةِ اللئام. وأنّى لمَن عَرِف الإباءَ أنْ يَهنَأ بعيشٍ في ظلّ دولةٍ يكونُ مِثلَ يزيدَ حاكمُها، وابنُ مرجانةَ واليها؟!
وقد أيقنوا أن الْمَكْرَ السَّيِّئَ لا يَحِيقُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ.. وأنْ ليسَ لسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلا تَحْوِيلاً.. وأنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا.. خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لّا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا..
يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا.. وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا.. رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا.
و دُكَّتِ الأَرْضُ دَكًّا دَكًّا بسنابك الخيول، و زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا تحت أقدام المقاتلين، وتكسّرت السيوف في أيدي جَنادلِ العرب، وتحطّمت الرماح في الصدور،
وغاصت الأرجل في الثرى الملطَّخِ بالدماء، وتبارز الرجال فطاحت الأيدي والرؤوس...
يا سرَّ كربلاء
يا دمَ الشهيد
يا لحنَ الخلودِ
يا برقَ الضُّبا، إذ :
لا يُـنـبِـتُ الـعـزَّ سـِــوى مَـربَعٍ لـيـس بــه بَــرقُ الـضُّـبا خُـلَّـبا
ولـم يـطأ عـرشَ الـعُلا راضـياً مَـن لم يـَطأ شـوكَ الـقَنا مُغضَبا
حيَّ عـلـى الـمـوتِ بـنـي هاشمٍ
ومَن لَهم في كربلا جادَ الوَفا
وأيُّ وفاءٍ وفاءُ فتيةِ كربلاء؟! وأيّةُ كرامةٍ نالُوا إذ عانَقَتْ أرواحُهم روحَ سيد الشهداء، وتمازجت دماؤهم على ثرى الطفّ:
خُطَّت بأطرافِ العوالي لهم
مضاجعُ تُسقَى الدمَ الصَّيِّبا
سَلْ بِهم أما تَسَل كربلا
إذ واجَهوا فيها البلا المُكرِّبا
دَكُّوا رُباها ثم قالوا لها
وقد جَثوا: نحنُ مَكان الرُّبا
يــا بـأبـي بـالـطفِّ أشـلاؤُهـا
تـَنـعى بَـهـا لـيـلاً تَـسـلُّ الـوغى
يــا بـأبـي بـالـطفِّ أوداجُـهـا
للسيفِ أضحَـت مـرتـَعاً مـُخـصَبا
يـــا بــأبـي بـالـطـفِّ أحـشـاؤها
عــادَت لأطــرافِ الـقَـنا مَـلـعبا
وانجلت غبرَةُ البِراز، وليس مع الحسين مِن ناصر! فشدّ عليهم والقومُ كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ، فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ، حتى قال قائلهم: وَاللَّهِ ما رَأَيتُ مَكثوراً قَطُّ، قَد قُتِلَ وُلدُهُ،
وأهلُ بَيتِهِ وأصحابُهُ، أربَطَ جأشاً مِنهُ، وإنَّ الرِّجالَ كانَت لَتَشُدُّ عَلَيهِ فَيَشُدُّ عَلَيها بِسَيفِهِ، فَتَنكَشِفُ عَن يَمينِهِ وشِمالِهِ انكِشافَ المِعزى إذا شَدَّ فيهَا الذِّئبُ !
أبا حسن ما صال شبلُك دارعاً
إذ استعرَت إلّا اضمحلت كتائبُ
نِضالُ أبي السجّاد سَنَّ لنا الإبا
فهل أدركَتْ نهجَ النضالِ الأعاربُ؟
هو الثورة الكبرى على الظلم عاتياً
هو الحقُّ، والحقُّ المناضلُ غالبُ
لقد ضربْتَ في مكمَنِ الجورِ باطلاً
فبادَ، لأنّ الله بالحقَّ ضاربُ
نبيَّ الهدى، أعظِمْ بسبطِك صائلاً
ينافِــحُ عن حقٍّ تبنّاهُ غاصبُ
يَرفُّ على سِبطِ النبيِّ لواؤه
يُواكبُه فيه الكماةُ الأطايبُ
أوارثَ ساقِي الموتِ في يومِ خيبرٍ
وقاهرَ جيشِ الشركِ، والشركُ واثبُ
طوى حيدرٌ في مأزقِ الرعبِ (مرحباً)
فهبَّ إلى الثأرِ القديمِ المراحبُ
يَعِـــزُّ على سبطِ النبوَّةِ أنْ يَرى
كَيانَ الحِمى قد داهَمتْه النوائبُ
أساطيرُ أحداثِ الزّمانِ عجائبٌ
وأغربُها أن تُستطابُ الغرائبُ
إذا ما توارى الحقُّ والحقُّ لاحبٌ
وصالت على الأُسْدِ الأُباةِ الثعالبُ
(فيا موتُ زُرْ إنّ الحياةَ ذميمةٌ)
فقد طاوَلَتْ تلك الصدورَ الذنائبُ
أسِبطَ الهدى أوقَدْتَ فيها مشاعلاً
قد اقتبَسَتْ منها النجومُ الثواقبُ
أفِض قَبَساً من نورِها يَنجلِ الدُّجى
فترتدَّ عن أُفِقِ الكيانِ الغياهبُ
مُرتِّلةَ الألحانِ في سِبطِ أحمدٍ
أعِيدي نشيداً فالنشيدُ المناقبُ
فسبطُ الهدى في موكبِ الدهرِ آيةٌ
يُشنِّفُ سمعَ الدهرِ فيها التعاقبُ
فإنْ رتَّلَتْها بالنشيدِ مَشارِقٌ
فقد أكبرَتْها للنضالِ المغاربُ
يا لنحرِكَ، يا حسينُ، وقد غدا لسيفِ الغدرِ غَرَضاً..
ويا لهوان الزمانِ إذ صار صدرُكَ لحوافرِ الخيلِ مَركَبا!
بنفسيَ ثاوٍ بحرِّ الهجيرِ
رأى العزَّ بالموتِ فاختارَهُ
تلفَّع طَمْرَ الثنا والدماءَ
إذ ابتزَّت القومُ أطمارَهُ
وصدرٌ نشا فوقَ صدرِ النبيِّ
به أودعَ اللهُ أسرارَهُ
غدا لخيولِ العِدى حَلْبةُ
تُعفِي السنابِكُ آثارَهُ
وبيتٌ تَذُبُّ الظُّبا دونَه
وتمنعُ سُمْرُ القنا جارَهُ
تسامَى بمَن فيه حتّى غَدَت
جميعُ الملائكِ زُوّارَهُ
فغودر بالطفِّ نَهْبَ العِداةِ
وقد هتكوا منه أستارَهُ
وفرَّت كرائمُه خِيفةً
فِرارَ القَطا عافَ أوكارَهُ
تَلُفُّ الضلوعَ على أكبُدٍ
بها شَبَّ زندُ الأسَى نارَهُ
وسيقت إلى الشامِ نحوَ اللئامِ
تُعاني مِن السَّيرِ أخطارَهُ
وليس لديها سِوى ناحِلٍ
به أنشَبَ السُّقْمُ أظفارَهُ
تُعاينُ بالرُّمحِ رأسَ الحسينِ
فتَذرِي مِن الدمعِ مِدرارَهُ
إنا لله وإنا إليه راجعون
وسيعلم الذين ظلموا – في كربلا - أيّ منقلبٍ ينقلبون !