الخوف من الموت : ليالي عاشوراء 1444 - المجلس الثامن


وَاللَّهُ أَنبَتَكُم مِّنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا 17 ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا 18
سورة نوح
الموت هو الحقيقة التي آمن بها الإنسان، ولطالما سعى للهروب منها، ولكنه فشل في ذلك على الدوام.
ولطالما بحث عن أدوات ووسائل للخلود في هذه الحياة.. وما زال يبحث،
وما زال مصيره الفشل..
وسيكون مصير بحثه الفشل الى الأبد.
كانت البداية مع آدم الذي خدعه إبليس إذ صوّر له أن الأكل من الشجرة الممنوعة سيكفل له الخلود.
فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لّا يَبْلَى 120
سورة طه
وصدّقه آدم بعفوية وبراءة الإنسان في بداية مسيرته في هذه الحياة.. فقد أقسم له الشيطان أنه صادق!
وهل يتجرأ موجود.. أيّ موجود.. أن يُقسم بالله العظيم كاذباً ؟!
وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ 21
سورة الأعراف
وما أكثر – اليوم - أولئك الذين يُقسمون بالله كذباً وزوراً !
وانضمّت حوّاء إلى زوجها في التجربة الفريدة ، وهي تبحث معه عن الخلود ...
فَأَكَلا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى 121
سورة طه
وهكذا فشلت التجربة، وخاب مسعاهما، ومات آدم كما ماتت حواء، وجاء من بعدهما من لم يملّ من البحث عن الخلود بكل وسيلة ممكنة:
أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ 128
وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ 129
سورة الشعراء
وانعكس ذلك على التراث البشري في الأدب
حتى وجدنا الملك السومري (جلجامش) في ملحمته التي يعود تاريخ تأليفها إلى أكثر من أربعة آلاف سنة، يقطع المفاوز والبحار بحثاً عن الخلود،
بعد أن أخبره أحد الحكماء عن نبتة في أعماق البحر تضمن له عودة الشباب بعد الشيخوخة.
فيخوض جلجامش المغامرة، ويربط نفسه بحجر، ويغوص في المياه العميقة، فيجتز النبتة، ولكنه في طريق عودته إلى مملكته،
يفقد تلك النبتة إذ تأكلها الأفعى، فيعود خائب الرجاء!
وتختتم الملحمة سرد هذه الأسطورة بأن بطلها الملك جلجامش اكتشف في نهاية المطاف
أن الحياة التي يسعى في إِثرها لن ينالها أبداً.
لأن الآلهة عند خلقِها البشر، جعلت الموت من نصيبهم،
واستأثرت بالخلود نصيباً لها وحدها.
حقيقة الخلود
الموت هو المصير المحتوم لكل إنسان في هذه الحياة، مهما علا شأنه: وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ 34
كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ 35
سورة الأنبياء
إلا أن الله الذي خلق هذا الوجود، وخلق الموت والحياة، لم يجعل موت الإنسان في هذه الحياة نهاية المطاف، على خلاف ادّعاء الماديين:
إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ 37
سورة المؤمنون
فالحقيقة هي أن الموت مجرد منعطف في حياة الإنسان، لتأتي من بعده حياة أخرى يتحقق فيها الخلود:
وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ 31
هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ 32
مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ 33
ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ 34
لَهُم مَّا يَشَاؤُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ 35
سورة ق
إذاً أصل فكرة خلود الإنسان ليست باطلة،
ولكن الخطأ الذي وقع فيه الباحثون عن الخلود
هو تصوّرهم إمكانية تحقيق ذلك في هذه الحياة.
بالطبع، فإن في البين كلام حول الخلود الأخروي، وهي يعني انتفاء الموت مطلقاً، أم تبقى المسألة نسبية؟
ذهب البعض إلى نسبية الخلود، وأن موت وفناء الإنسان لابد وأن يأتي في الآخرة، وذلك بلحاظ قوله تعالى:
فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُواْ فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ 106 خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ 107
وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُواْ فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ 108
سورة هود
فالبقاء مرهون ببقاء ودوام السماوات والأرض بعد إعادة تشكيلهما في الحياة الآخرة:
يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُواْ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ 48
سورة إبراهيم
وعندما يحين وقت فناء السماوات والأرض في الحياة الآخرة، تنتهي حياة الإنسان من جديد.. وإلى الأبد.
هذا رأي في فهم الآيات السابقة، ومن كبار المفسرين السنة والشيعة من يعارض ذلك، ويعتبرون أن القرآن في مواضع أخرى أكّد خلود
السماوات والأرض
مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ ۖ وَمَا عِندَ اللَّهِ بَاقٍ 96
سورة النحل
تفسير الميزان: (السماوات التي تُظِلّ الجنة مثلاً، والأرض التي تُقِلُّها وقد أشرقت بنور ربها، فهي ثابتة غير زائلة، فالعالم لا تخلو منهما قط).
تناسخ الأرواح
وإذا كانت الرسالات السماوية قد نصّت على الإيمان بالآخرة والحياة بعد الموت، فإن بعض الأمم أخذت منحىً آخر في إيمانها في عودة الإنسان الميت إلى الحياة
وذلك بإيمانها بتقمّص الروح أو التناسخ أو رجوع الروح إلى الحياة بجسد آخر، إنسي أو حيواني أو نباتي أو غير ذلك.
آمنت بها بعض الديانات وإن اختلفت في تفسيرها وبعض خصوصياتها، ومنها الهندوسية والسيخية والبوذية والطاوية والجاينية وشعوب المايا في أمريكا الوسطى،
والإنكا في أمريكا الجنوبية،
وعند طائفة القبالا اليهودية وتسمى (غيلغول نشيمات) أي دورة (قلقلة) النَّسَمة،
وعند الدروز (التقمص) لأنهم لا يؤمنون إلا بانتقال روح بشرية إلى جسد بشري آخر دون سائر المخلوقات،
وعند طائفة العلويين (النصيريين).
وكلها جاءت كمحاولة للالتفاف على إحدى الحجج العقلية القوية حول إثبات المعاد،
والحقيقة التي لا يمكن تجاوزها والمتمثّلة بضرورة محاسبة العصاة والمجرمين
على ما اقترفت أيديهم، وإثابة المحسنين والصالحين،
لأنّ هذه العدالة لا تتحقق عادةً في المدة التي يعيشها الفرد.
أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ 115 فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ 116
سورة المؤمنون
كما شهد الإيمان بالآخرة والحياة بعد الموت ـــ عبر التاريخ ـــ انقساماً بين القائلين به،
فمنهم مَن قال بعودة الروح فقط واستحالة عودة الجسد،
ومنهم مَن قال بعودة الجسد والروح.
وبحسب الموسوعة الكاثوليكية، فإنّ عودة أصحاب الكهف إلى الحياة الطبيعية بعد أكثر من 300 سنة
من وجودهم في الكهف شبه أموات كان تدبيراً إلهياً للانتصار لعقيدة عودة الروح والجسد معاً.
فقد جاءت القصة في الموسوعة الكاثوليكية تحت عنوان
The Seven Sleepers of Ephesus
معتبرة أن وجودهم في الكهف تزامن مع إثارة قضية إحياء
الموتى في يوم القيامة كمشكلة فكرية كبيرة انقسم على إثرها الناس يومذاك،
ولم ينتصر أصحاب الرأي القائل بحقيقة البعث الجسماني بعد الموت
إلا حين اكتُشف أمرهم.
وأراد الملك أن يبنيَ لهم أضرحة من ذهب، إلا أن المنتصرين أصروا على بناء كنيسة على الكهف.
وهو ما يلتقي مع ما جاء في القرآن الكريم:
وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِم بُنْيَانًا رَّبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ
قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِم مَّسْجِدًا 21
سورة الكهف
الوصفة الإسلامية
الإسلام اعتبر أن علاج هذا الخوف هو الإيمان والعمل الصالح وذِكر الله على الدوام وتقوية الارتباط به، وهو ما يحقق الطمأنينة النفسية:
الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ 28
سورة الرعد
السبب الرئيس لسعي الإنسان وراء الخلود هو الخوف من الموت والفناء
أو ما وراء الموت.
وهذه الطمأنينة ستؤتي ثمارها عندما يقترب الإنسان من الموت:
يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ 27 ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً 28 فَادْخُلِي فِي عِبَادِي 29 وَادْخُلِي جَنَّتِي 30
سورة الفجر
ولكن فلنلاحظ أن الله يطلب من الإنسان أن يعيش الخشية منه
الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ وَهُم مِّنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ 49
سورة الأنبياء
والخوف من الآخرة
رِجَالٌ لّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ 37
سورة النور
ولكن كيف يمكن للمؤمن أن يطمئن والمطلوب منه أن يعيش الخشية من الله والخوف من الآخرة؟ أليس في هذا تناقض بيّن؟
لا تناقض في البين، لأن المسألة لا تقف عند حد الخشية من الله والخوف من الآخرة،
بل إن ذلك يستتبع أمراً آخر وهو أن يفرّ الإنسان إلى الله ويلجأ إليه،
وحينئذ يشعر بالطمأنينة لأنه إنما يفر إلى القوي العزيز الرحمن الرحيم.
ولو توقفت الخشية وتوقف الخوف عند هذا الحد،
وترك الإنسان ليواجه مصيره المجهول لوحده
لكان ذلك التساؤل منطقياً ومقبولاً،
ولكن المسألة ليست هكذا، وهذا ما يتجسد في حال المؤمن
وهو يتلو كتاب الله كما جاء وصفه في القرآن: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاء وَمَن يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ23
سورة الزمر
إنهم يعيشون الخوف من العذاب حين يعيشون آيات القرآن التي تتحدث عن عظمة الله، فيستشعرون الرهبة منه
في حالة عصيانه أو التمرد عليه، وتعمل هذه الرهبة على إثارة الشعور فيهم بالمسئولية بما يُخرجهم من أجواء اللامبالاة.
وعندما يتمثّلون عظمة ربوبيته وامتداد قدرته، وسعة رحمته، تخشع نفوسُهم، وتطمئنّ قلوبُهم بذكره، وتلين أجسادُهم لعبادته.
وهكذا تتحقق الطمأنينة بعد الخوف، والهدوءُ النفسي بعد الرهبة.
وقد قدّم الإمام زين العابدين (ع) بُعداً آخر لتحقيق هذه الطمأنينة تجاه الموت،
بل وأكثر من ذلك، تحقيق الاشتياق إلى لقاء الله:
(اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّد وَآلِهِ، وَاكْفِنَا طُـولَ الأمَـلِ ، وَقَصِّرْهُ عَنَّا بِصِدْقِ الْعَمَلِ، حَتَّى لا نُؤمِّلَ اسْتِتْمَامَ سَاعَة بَعْدَ سَاعَة وَلاَ اسْتِيفَاءَ يَوْم بَعْدَ يَوْم، وَلاَ اتِّصَالَ نَفَس بِنَفَس، وَلا لُحُـوقَ قَدَم بِقَـدَم).
اعتبر (ع) أن (صدق العمل) هو السبيل لتحقيق قصر الأمل...
أي عدم التطلّع الكبير للحياة الدنيا والتعلّق بها.
وصدق العمل يعني أن يكون العمل صالحاً في نفسه، وفي منطلقاته.
(وَسَلِّمْنَا مِنْ غُرُورِهِ، وَآمِنَّـا مِنْ شُـرُوْرِهِ، وَانْصِبِ المَوْتَ بَيْنَ أَيْدِينَا نَصْباً، وَلاَ تَجْعَلْ ذِكْرَنَا لَهُ غِبّاً) متقطّعاً غير متتابع (وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ صَالِحِ الأعْمَالِ عَمَلاً نَسْتَبْطِئُ مَعَهُ الْمَصِيرَ إلَيْكَ،
وَنحْـرِصُ لَهُ عَلَى وَشْكِ اللِّحَاقِ بِكَ) فالعمل الصالح هو الذي يشوّق الإنسان إلى لقاء ربه ويعيش معه طمأنينة المصير (حَتَّى يَكُونَ الْمَوْتُ مَأنَسَنَا الَّذِي نَأنَسُ بِهِ، وَمَألَفَنَا الَّذِي نَشْتَاقُ إلَيْهِ،
فَأسْعِدْنَا بِهِ زَائِراً ، وَآنِسْنَا بِهِ قَادِماً ، وَلاَ تُشْقِنَا بِضِيافَتِهِ، وَلا تُخْزِنَا بِزِيارَتِهِ، وَاجْعَلْهُ بَاباً مِنْ أَبْوَابِ مَغْفِرَتِكَ، وَمِفْتَاحاً مِنْ مَفَاتِيحِ رَحْمَتِكَ).
احتضان الموت
هكذا كان حال القاسم بن الحسن في يوم العاشر حيث أدرك الأبعاد المعنوية للحياة والموت ولم يعش حيرة الموقف في أصعب المواقف..
ولم يمنعه صِغر سنِّه عن أن يكون عظيماً في حياته ومماته.
روى الطبري عن حميد بن مسلم قال: (خرج إلينا غلام كأن وجهه شقة قمر، في يده السيف، عليه قميص وإزار ونعلان، قد انقطع شسع أحدهما، ما أنسى أنها اليسرى،
يكفيك قتل هؤلاء الذين تراهم قد احتولوهم. قال: فقال: والله لأشدن عليه. فشد عليه، فما ولّى حتى ضرب رأسَه بالسيف، فوقع الغلام لوجهه، فقال: يا عماه!
قال: فجلى الحسين كما يجلي الصقر، ثم شد شدةَ ليث غضِب، فضرب عمراً بالسيف، فاتّقاه بالساعد، فأطنها من لدن المرفق، فصاح، ثم تنحى عنه، وحملت خيل
لأهل الكوفة ليستنقذوا عمراً من حسين، فاستقبلت عمراً بصدورها، فحركت حوافرها وجالت الخيل بفرسانها عليه فوطئته حتى مات، وانجلت الغبرة فإذا أنا بالحسين قائم
على رأس الغلام، والغلام يفحص برجليه، وحسين يقول: بُعداً لقوم قتلوك، ومن خصمهم يوم القيامة فيك جدك. ثم قال: عزّ والله على عمك أن تدعوه فلا يجيبك،
أو يجيبك ثم لا ينفعك، صوت والله كثر واتره، وقلّ ناصره. ثم احتمله فكأني أنظر إلى رجلي الغلام يخطّان في الأرض، وقد وضع حسين صدره على صدره).
أهلّتْ دموعي حيـنَ هلَّ مـحرَّمُ
فـطـيبُ الكِرى فيهِ عليَّ محرَّمُ
فلهفي لآلِ المصطفى كم تجرَّعوا
أذىً يومَ وافوا (كربلاء) وخيَّموا
فـوافــتـهـمُ أجـنــادُ آلِ أمـيَّــةٍ
وقـائـدُهـمْ شـمـرُ الـخـنـا يـتـقـدَّمُ
فـهـبَّ بـنـو الـعلياءِ أبناءُ فاطمٍ
وسـيِّـدُهـم أهـدى الأنـامِ وأكرمُ
حسينٌ مَن الباري اجتباهُ وخصَّه
ظـهيراً إلى الدينِ الحنيفِ يُقوِّمُ
فهبَّ بها ابنُ المجتبى القرمُ قاسمٌ
يُـكـيـلـُهـم بـالمشرفيِّ ويَقسِمُ
وغاصَ بهمْ شبلُ الزكيِّ مُدمِّراً
بـصارمِه نثراً وبالرُّمحِ ينظمُ
يجولُ بهمْ جَولَ الـرَّحـى فـكـأنّـه
عـلـيـمٌ بفنِّ الحربِ لا مُتعلِّمُ
دجىً صبحُ ذاكَ اليومَ نقعاً ووجهُه
أضاءَ كبدرِ التمِّ والليلُ مُظلمُ
فنكّسَ أعلاماً وأردى قـسـاوراً
ودمَّـرَ باقيَ جيشِهمْ وهوَ مُعلِمُ
إذا ما تجلّى في الــنـزالِ يريهمُ
ثـبـاتَ عـلـيٍّ جدِّهِ وهـوَ يَبسُمُ
وقامَ يـسـوِّي بـيـنهمْ شِسعَ نعلِه
فلمْ يخشَ ما بينَ العِدى يترنَّمُ
يقولُ: أنا ابن المجتبى نجلُ فاطمٍ
فـإنْ تنكروني فالوغى بي تَعلَمُ
فشُلّت يدُ الأزديِّ كيفَ بسيفِهِ
نـحـى رأسَه ضرباً فخضَّبهُ الدمُ
وخرَّ على وجهِ البسيطةِ فاحصاً
برجليهِ في الرمضا جديلاً يُخذّمُ
فلم أنسَ إذ وافاهُ ينعاهُ عـمُّـه
كـمُنقضِّ صقرٍ والمدامعُ تُسجَمُ
فقدتُكَ بدراً غاله الخسفُ بغتةً
ونجـمَ سعودٍ لا تضاهيهِ أنجمُ
فلو أنَّني بـاقٍ بـكـيـتُـكَ لـوعةً
ولـكـنْ إلـى مـا صـرتمُ مُتقدِّمُ