خطبة الجمعة 7 محرم 1444: الشيخ علي حسن : الخطبة الثانية: كُن مع الحق

- في القرآن الكريم حديث متعدّد عن الخاسرين يوم القيامة.. والخاسرون في يوم القيامة أصناف.
- من بين هذه الأصناف نموذج التابعين الذين يُسلِمون زمامَ أمورِهم بيد غيرهم، ويجعلون أنفسهم في موقع التبع، ويبرّرون لأنفسهم وفق التعبير الدارج: (أنا عبدٌ مأمور).
- (وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِّنَ النَّارِ، قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّـهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ) [غافر:47-48].
- في يوم القيامة، حين يشهد هؤلاء الغارقون مصيرَهم الخطير فإنهم يتعلقون بقشتين:
- القشة الأولى: قشة المتبوعين في الدنيا من أصحاب القوة والنفوذ.
- والقرآن يحكي عن هذا المشهد في أكثر من موقع، من بينها: (وَبَرَزُوا لِلَّـهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّـهِ مِن شَيْءٍ) [إبراهيم:21].
- نحن جماعتكم، وفعلنا ما فعلنا في الدنيا من جرائم وموبقات من أجلكم...
- في الدنيا، وفي مقابل خدماتنا، كنتم تتوسطون لنا أحياناً، إذ كانت لكم وجاهة وقوة...
- وفي مقابل خدماتنا، كنتم تُلقون إلينا ببعض فتات موائدكم، إذ كنتم تملكون المال الوفير...
- ولولا مواقفنا المساندة وتنفيذنا أوامركم، لما بسطتم نفوذَكم وحقَّقتم مطامعكم، فهلاّ جازيتمونا على ذلك في هذه اللحظات العصيبة بتحمل مسئولية ما ارتكبنا، وتخليصنا من العذاب؟
- ويأتيهم الردّ من المتبوعين: (قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّـهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ) [إبراهيم:21] إنّ حالنا وحالكم - اليوم - واحد، فكيف ننقذكم؟
- وإذ لا تنجح هذه المحاولة، فإن الضعفاء يحاولون أن يجعلوها شماعة يعلِّقون عليها أخطاءهم وجرائمهم: (وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا) [الأحزاب:67].
- وحيث تفشل محاولتهم من جديد، يأتي الندم والرغبة في الانتقام: (رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا) [الأحزاب:68].
- القشة الثانية: قشة الشيطان. الأضواء يوم القيامة ستكون مسلّطة على الشيطان، فهو أبرز أبطال قصة الصراع في الحياة الدنيا بين الحق والباطل، وبين الخير والشر، والعدل والظلم.. ويتعلّق الغارقون بقشّةِ تحميله كامل المسؤولية لما جرى لهم، وللمصير الذي ينتظرهم.
- وكأنهم هنا يقولون أنهم كانوا كالمجبورين وكالأدوات التي لا تملك الاختيار، وكل المسؤولية تقع على الشيطان، وقد سلّطْتَه علينا يا رب، فما ذنبُنا؟ فماذا يقول لهم الشيطان حينذاك؟ (وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّـهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلَّا أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنفُسَكُم مَّا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ) أي منقذكم وناصركم (وَمَا أَنتُم بِمُصْرِخِيَّ)[إبراهيم:22].
- وهذا ما حذّر منه الإمام الحسين(ع)، وهو في مجلسٍ جمعَه بمعاوية، ولعل ذلك حين جاء المدينة ليروّج لحكم يزيد فقيل له: (إن الناس قد رموا أبصارَهم إلى الحسين، فلو قد أمرتَه يصعد المنبر فيخطب، فإنَّ فيه حصْراً، وفي لسانه كلالة) ولمّا استجاب للطلب بعد إصرار منهم صعد الحسين (ع) المنبر فكان فيما قال: (... نحن حزبُ الله الغالِبون، وعترةُ رسولِ الله الأقربون، وأهلُ بيته الطيّبون، وأحدُ الثقلين الذيْن جعلَنا رسول الله ثانيَ كتاب الله تبارك وتعالى.. فأطيعونا، فإنّ طاعتنا مفروضة، إذ كانت بطاعة الله ورسوله مقرونة) ثم قال: (... وأحذّرُكم الإصغاءَ إلى هتوفِ الشيطانِ بكم، فإنّه لكم عدوٌّ مبين، فتكونوا كأوليائه الذين قال لهم: [لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكُمْ]...).
- وما ينطبق على الأفراد ينطبق على الأحزاب والجماعات والدول... فالضعف ليس مبرراً للاستسلام للإرادات الباطلة لأصحاب القوة والبطش.
- وعلى الضعيف أن يبحث عن مكامن القوة لديه ولدى الآخرين ممن يشاركونه الضعف فيحشدَها ضد من يريد استغلالَ ضعفِه.. كما وعليه أن يبحث عن نقاط الضعف عند القويّ لتكون هي الثغرة التي من خلالها يخفّف من وطأته.. إذ لا قوة مطلقة لأي وجود سوى الله سبحانه.
- وقد جعل الله سبحانه من نقطة الضعف في ثورة الإمام الحسين (ع) -وهي قلّة عدد أنصاره- مصدرَ القوةِ والامتداد في مواجهة الباطل والفساد، حيث لم تمنعْه قلّة العدد وخذلان الناصر من المواجهة إلى القتل في سبيل الله، وهذا ما يفعله اليوم شبابُ فلسطين وهم يقاومون إجرام الصهاينة والمستوطنين. ولاشك أن ما تمتلكه الآلة الصهيونية الإجرامية من قوة لا تُقاس - من حيث الموازين المادية - بما لدى هؤلاء الشباب، إلا أنهم درسوا أوضاعَهم، وعرفوا مكامن القوة لديهم.. ودرسوا عدوّهم الغاصب، وأدركوا نقطة ضعفٍ لديه، وانطلقوا في مقاومتهم من خلالها، متوكّلين على الله سبحانه. فليكن في إحيائنا لذكرى عاشوراء تحيَّةُ إكبارٍ وتعظيمٍ لشبابِ فلسطينَ
المقاومين الذين يَقذفون الرعبَ في قلوب الصهاينة، ويواجهون وحشيتَهم بصبرٍ وثبات.