الشهادة على الناس : ليالي عاشوراء 1444 - المجلس الخامس

وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ
وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّـهُ وَمَا كَانَ اللَّـهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّـهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ 143
البقرة
نزلت هذه الآية الشريفة في أجواء الإشكالية التي أثارها اليهود بين المسلمين حول وجهة القبلة الأولى (المسجد الأقصى)
إذ أثار اليهود إشكالية تبعية المسلمين لهم من خلال التوجه إلى هذه القبلة خلال الصلاة، وأن الإسلام ليس سوى بدعة انبثقت من اليهودية
وهو ما خلق بلبلة واسعة وشديدة في وسط المسلمين، فجاء النسخ لهذا التشريع السابق بتوجيه المسلمين في صلاتهم نحو المسجد الحرام بدلاً عن المسجد الأقصى.
لتبيّن الآيات الشريفة التي عالجت الإشكالية أن التشريع الأول جاء كنحو من الاختبار للمسلمين ليتبيّن مدى التزامهم بالتشريعات الإلهية وإن خالفت أهواءهم
فقد اعتاد العرب قبل البعثة على تقديس البيت الحرام بمكة المكرمة، والحج إليه، وهو الإرث التشريعي الإبراهيمي الذي التزموا به على مدى قرون متمادية.
فلما بُعث النبي (ص) من مكة، بيّن لهم أنه وريث الرسالة الإبراهيمية، وهو ما أكده القرآن الكريم حيث قال تعالى:
مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلاَ نَصْرَانِيًّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ 67 إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ 68
آل عمران
فإذا بالتشريع الإسلامي يأمر المؤمنين بالرسالة أن يتوجهوا في صلاتهم إلى قبلة أخرى، هي المسجد الأقصى الذي يتوجه إليه اليهود دون العرب !
لذا كان الأمر بمثابة اختبار عسير لمدى تسليمهم لله سبحانه ولرسوله (ص):
... وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّـهُ .. 143
البقرة
ولما نزل نسخ هذا التشريع من عند الله سبحانه، أثار اليهود إشكالية أخرى حول مشروعية نسخ التشريعات
فما يكون من عند الله يجب أن يكون تشريعاً ثابتاً..
 كيف يتغيّر حكم اللّه مما هو
حق إلى ما هو باطل؟
 أو كيف يكون الحكم باطلاً
من الأساس فيتحوّل إلى ما
هو حق؟
وكيف يمكن أن ينسب ذلك إلى اللّه الحكيم في كلّ ما يفعله من أفعال وما يشرِّعه من أحكام ما دامت المصلحة لازمة للأشياء، وما دام الحكم تابعاً للمصلحة التي تمليه؟!
لقد عاش المسلمون من خلال هذه الإشكاليات حالة من الصدمة، لاشتمال ذلك على أسلوب جديد غير مألوف لديهم في التعامل مع التشريع الذي اعتادوا عليه لمدّة طويلة،
فعاشوا جوّاً من الريب والحيرة، وبدأوا يواجهون حالةً متوترة من الضوضاء والقيل والقال، بالمستوى الذي تحوّل الموقف فيه إلى عُقدة كبيرة تهدّد المسيرة الإسلامية في ذلك المجتمع،
لاسيما بلحاظ نظرة الإعجاب التي كانت تتملكهم تجاه أهل كتابٍ لديهم الكثير من قصص الماضين وتفاصيل الأخبار.
معالجات متعددة
1. مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلاَ الْمُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ 105
وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ ... 109
فهؤلاء القوم لا يريدون لكم الخير، فلا تحسنوا الظن بهم ولا تصدقوهم في كل ما يقولون
2. مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ 106
أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ 107
من شأن الله أن ينسخ الأحكام التي تأتي في في آياته بين الشرائع وفي الشريعة الواحدة
بل من شأنه أن يجعل القديمة منها منسية لا يتذكرها أحد
وهو المالك لكل شئ
ولذا فلتكن قلوبكم متعلقة بالله فهو الولي الجقيقي والنصير الحقيقي
لا هؤلاء القوم
3. قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ
وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ 144
قيل يعلمون أن المسجد الحرام قبلة
أو أن قبلتهم ستبطل يوما ما وسيستبدل الله بها قبلة أخرى
أو أن النبي حق
ولكن هناك احتمال آخر
فعندما وقعت في يدي نسخة من كتاب (منقول رضائي) لمحمد رضا جديد الإسلام وهو رجل دين يهودي أسلم في العهد القاجاري
ضمّن كتابه بابا حول اعتقاد اليهود بإمكانية نسخ التشريعات
4. وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا
في البين أمر مهم جداً عليكم أن تعوه، وهو أن الله سبحانه قد اختار هذه الأمة لتكون الأمة الوسط الشاهدة.
تفسير الوسطية
والشهادة على الناس
 ما المراد بالوسط في الآية؟
 وكيف تتحق هذه الشهادة؟
 اختلفت كلمات المفسرين في فهمهم للمراد من الآية الشريفة، ومن بين هذه الآراء:
1. المعنى اللغوي لكلمة وسط
ففي اللغة: وسط الشيء يعني ما بين طرفيه.
وعندما نصف شيئاً بأنه وسط، فهذا يعني أنه يتصف بالعدل والتوازن.
وبالتالي فإن الآية تريد أن تقول أن التشريعات الإسلامية تشريعات متوازنة وسطية،
لا هي بالمتطرفة في الاتجاه الروحي (النصارى)
ولا هي بالمتطرفة في الاتجاه المادي كما هو الحال عند المشركين واليهود.
كما أن الإسلام يتوازن في تعاليمه بين متطلبات الجماعة واحتياجات الفرد، فلا يلغي دور الفرد وشخصيته كما في الشيوعية مثلاً،
ولا يُعطي كل القيمة للفرد على حساب المجتمع، كما في الرأسمالية.
ويتوازن الإسلام أيضاً من حيث أنه يدفع الإنسان للعمل من أجل الآخرة، ولكنه يعطيه الحق أيضاً أن يعمل للدنيا ويتمتع بمتعها ضمن ضوابط معينة.
وهناك مصاديق كثيرة للتوازن في تعاليم الإسلام وتشريعاته وقيمه ومفاهيمه، مما يمكن معها فهم معنى الوسطية في الإسلام بحسب هذا التفسير.
وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ... 77
القصص
قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ ... 32
الأعراف
وبالتالي فإن معنى الشهادة على سائر الناس يعني أن تعاليم الإسلام وتشريعاته وقيمه هي المعيار الذي يجب أن يُقيَّم من خلاله ما عند الآخرين،
لاسيما بلحاظ أن الدين قد كَمُل بما بُلّغ به النبي (ص):
الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا 3
المائدة
وأما شهادة الرسول (ص) على المسلمين فتعني أن الله جعل شخصيته (ص) وعبادته وجهاده وسلوكه وأخلاقياته وحكمته هي المعيار الذي يجب أن نقيِّم من خلاله ما عندنا.
2. أهمية السياق لفهم المراد
كان ذلك هو التفسير الشائع للآية الكريمة.. أما الرأي الثاني في بيان المراد من الآية فيعتمد - بالإضافة إلى المعنى اللغوي للكلمة - على إرجاعنا إلى السياق الذي جاءت فيه الآية،
وهذه نقطة مهمة وحساسة في فهم الآيات، وكثيراً ما يكون المعنى غامضاً أو نخطئ في فهم الآية بسبب عزلها أو اقتطاع عبارة منها،
بينما غالباً ما يختلف الأمر لو التزمنا بفهم الآية ضمن السياق.
الآيات 135-150 من سورة البقرة نزلت لتعالج إشكالية تحديد القبلة الأولى ثم نسخ التشريع الخاص بها، وبالتفصيل،
إعادة الثقة للمسلمين لئلا ينهاروا أمام عمليات التضليل والتشكيك،
ولتقول للمسلمين إن الله أراد لكم أن تكونوا الأمة التي تقود سائر الناس إلى قيم الإسلام ومبادئه وأهدافه الكبرى.
هذا هو معنى جعلهم أمة وسطاً، أي أمة قائدة - لأنها في المركز - لا أمة تابعة..
وهل يمكن لمن اهتزت ثقته بمبادئه أن يقود الآخرين إليها؟
ويأتي الرسول الأكرم(ص) ليكون في وسط ذلك المركز، باعتباره القائد الأعلى نحو الهداية.
فلا تفقدوا الثقة في أنفسكم، ولا تسمحوا للآخرين ممن يعادونكم ويتمنون لكم الشر فحسب، بأن يهزّوا قناعاتكم في نبيكم ورسالتكم.
وَدَّت طَّائِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ 69
آل عمران
وَقَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُواْ بِالَّذِيَ أُنزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُواْ آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ 72
آل عمران
هذا هو الموقف الحقيقي لطائفة من أهل الكتاب تجاه المؤمنين برسالة محمد (ص)، ولذا لا تقيموا لإشكالاتهم وزناً، وتذكروا دائماً حقيقة أنكم الأمة الوسط الشاهدة.
وهذا الموقع القيادي الذي اختير لكم يحمّلكم مسؤولية الموقع،
فالقائد في ضمن عمله القيادي يراقب مَن حوله بدقة وتتبع، في أفكارهم وأعمالهم،
لأنهم يدخلون في ضمن مسؤوليته. وهذا معنى شهادتكم كما جاء في الآية.
تماماً كما أن رسول الله (ص) في قيادته للأمة يتحمل مسئولية الموقع، ويراقبكم، وبذا يكون الشاهد عليكم.
وسواء فسّرنا الآية وفق الرؤية الأولى أو الثانية، فإنني أود أن أنبه إلى أمرين:
1. مسئولية المواجهة
الأولى: أننا اليوم نواجه حملة إعلامية وفكرية متواصلة، مسوّغها الأول جرائم التكفيريين، وأداتها الإعلام المفتوح،
هذه الحملة المحمومة هدفها الرئيس هزّ ثقة شبابنا بالإسلام في قواعده الإيمانية، وفي تشريعاته الحياتية، وفي قيمه الأخلاقية ، وفي حقائقه التاريخية....
على مستوى قضايا الحقوق والمرأة والحرية ونظام العقوبات، وغيرها... تماماً كما سعى يهود المدينة لتحقيق ذات الهدف
فانبرى لهم القرآن مفنّداً أباطيلَهم،
وموجّهاً أصابع الاتهام إلى انحرافاتهم عن دين الله، ومعيداً الثقة لنفوس المسلمين بأنفسهم وبرسالتهم وبقيادتهم، بل وذكَّرهم بأنّ الله قد اختارهم ليكونوا في الموقع القيادي،
أو بما يمثّله دينهم من اتّزان في أسسه الإيمانية والفكرية والتشريعية والروحية والأخلاقية.
وكما عمل القرآن على إعادة الثقة إلى المسلمين بأنفسهم ودينهم، ووضَعَهم في المسار الصحيح، فإن مسؤوليتنا اليوم كأولياء أمور ومعلّمين ومبلّغين
وأصدقاء ومستعملي وسائل التواصل الاجتماعي أن نعمل في ذات الاتجاه تحت شعار:
.... وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ .... 8
المنافقون
2. مسئولية الدعوة
الثاني: أن نعود من خلال هذه الثقة المكتسَبة لنتحمّل مسئولية إيصال الرسالة إلى العالم بالأساليب المثلى وبالحماسة الكبيرة التي عُرفت لدى المؤمنين
عبر التاريخ، ثم خبت...
لتعود مجدداً مع الصحوة الإسلامية خلال النصف الثاني من القرن العشرين، فإذا بها توجَّه نحو الانشغال بالسياسة والتنافس الانتخابي على المواقع المختلفة
أو نحو الكيانات التكفيرية والمتطرفة، أو يتم توظيفها مخابراتياً لأغراض تخدم مصالح بعض الجهات أو بعض الدول،
أو الوقوع في فخ دعاة الفضائيات ودورهم السلبي
من خلال البحث عن المال والشهرة وعدم الإخلاص والمواقف السلبية الصادمة
الاستسلام للخطاب الديني السطحي
الخطاب الديني الذي يركز على الذات فقط
غياب الخطاب الديني الرسالي
والنتيجة في نهاية المطاف
الصدمة من فشل بعض تجارب الإسلاميين
العزوف عن
حمل الهم الرسالي
وفي البين فإن منافذ اللهو الكثيرة و الحرب الضروس ضد الإسلام من الملحدين والأحزاب اليمينية ودوائر كثيرة ستكون النتيجة فقدان هذه الصورة:
وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ 20 اتَّبِعُوا مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُم مُّهْتَدُونَ 21
يس
يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ 17
لقمان
وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ 104
آل عمران
مسلم بن عقيل: النموذج الرسالي
وهي ذات الحماسة التي نجدها عند مسلم بن عقيل في الكوفة وهو يعيش أجواء التحدي والمخاطر، فيستمر في مشروعه دون وجل مسترخصاً كل شئ من أجل الغاية النبيلة.
وهذا جانب من إصرارنا على إحياء ذكرى عاشوراء وشخصياته العظيمة التي أبلت بلاءً حسناً، إذ تمثّل قدوات عملية تتلاءم مع التنوّع في السن وسائر الاعتبارات
التي يتمايز من خلالها الأفراد، فتجد المراهق والشاب والكهل والشيخ الكبير، كما تجد السيد والخادم، وذي النسب وغيره، والغني والفقير، والرجل والمرأة.
في كتاب الأخبار الطوال للدينوري ومصادر أخري بشيء من الاختلاف في الألفاظ والتفاصيل أنه:
(ولم يزل مسلم بن عقيل يأخذ البيعة من أهل الكوفة حتى بايعه منهم ثمانية عشر ألف رجل في ستر ورفق).
وفي تاريخ الطبري عن الإمام محمد الباقر (ع) في أجواء اعتقال هانيء بن عروة بعد محاولة اغتيال ابن زياد: (فأتى مسلماً الخبرُ، فنادى بشعاره فاجتمع إليه أربعة آلاف من
أهل الكوفة، فقدم مقدّمته وعبى ميمنته وميسرته وسار في القلب إلى عبيد الله. وبعث عبيد الله إلى وجوه أهل الكوفة فجمعهم عنده في القصر فلما سار إليه مسلم فانتهى إلى باب
القصر أشرفوا على عشائرهم فجعلوا يكلمونهم ويردّونهم، فجعل أصحاب مسلم يتسلّلون حتى أمسى في خمسمائة! فلما اختلط الظلام ذهب أولئك أيضاً! فلما رأى مسلم أنه قد
بقى وحده يتردد في الطرق حتى أتى باباً فنزل عليه، فخرجت إليه امرأة فقال لها: اسقيني، فسقته، ثم دخلت فمكثت ما شاء الله ثم خرجت فإذا هو على الباب قالت: يا عبد الله، إن
مجلسك مجلس ريبة فقم. قال: إني أنا مسلم بن عقيل، فهل عندك مأوى؟ قالت: نعم، ادخل. وكان ابنها مولى لمحمد بن الأشعث. فلما علم به الغلام انطلق إلى محمد فأخبره
فانطلق محمد إلى عبيد الله فأخبره فبعث عبيد الله عمرو بن حريث المخزومي وكان صاحب شرطه إليه ومعه عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث، فلم يعلم مسلم حتى أحيط
بالدار، فلما رأى ذلك مسلم خرج إليهم بسيفه فقاتلهم فأعطاه عبد الرحمن الأمان، فأمكن من يده، فجاء به إلى عبيد الله فأمر به فأصعد إلى أعلى القصر فضربت عنقه، وألقى
جثته إلى الناس وأمر بهانئ فسُحِب إلى الكُناسة فصُلب هنالك).
حَزِنْتُ وهل أبقى ليعقـــوبَ حُزْنُــهُ
على يوسفٍ غيرَ العيـونِ الذّواهِبِ
وما كان حُزْني مِن خُطوبٍ سَئِمْتُها
فَمَنْ لم يُقـاسِ الدّهرَ غِــرُّ التَجاربِ
ولكنّ جَوْرَ النّاسِ أدمى مَحاجِــري
بِغَـــدْرِ فتىً يُنْمى إلى آلِ غالـــبِ
سرى ابنُ عقيلِ الخَيْرِ ذو الفَضْلِ مُسْلِمٌ
رسولَ هُدىً يجلو ظلامَ الغَياهِبِ
رسولَ هُدىً عن سِبْطِ (طَهَ) مُجَلِّياً
حَقائقَ نَهْجِ الحَـــقِّ عن كُلِّ رائِـــــبِ
إلى الكوفةِ الحمـراءَ مِنْ أرضِ مكّـةٍ
فسبحانَ مَن أسْــرى بخيرِ الرَّكائِبِ
ليأخُذَ منها العَهْدَ في نَصْــرِ دينِهِ
وإرجاعَ حَــقِّ اللهِ مِنْ كُلِّ غاصِــــبِ
أتى مُسْلِمٌ والرّشْـــــدُ حادٍ رِكابَـهُ
إلى مَجْمَعٍ ظامٍ إلى الرُّشْدِ ساغِبِ
وما جــاء للدّنيا الذي عاشَ ثائِراً
يرى الموتَ دونَ الحَقِّ أسمى الرَّغائِبِ
ولكنَّما الشَيطــــانُ أوحى لِجُنْــــــدِهِ
مَكائِدَ لا تبدو لِعَيْــــنِ المُراقِـــبِ
تُفرِّقُ شَمْلَ الناسِ مِنْ بعدِ جَمْعِهِمْ
وقد حَكّمتْ فيهِمْ شُــرورَ المَـآرِبِ
ولمّا دعاهُ المــوتُ نَصْـــــراً لِدينِــهِ
أراهُمْ مِنَ الإقـــدامِ إحْـدى العَجائِبِ
بنفسي غَريباً مُبْعَـــدَاً عن دِيــــــــارِهِ
أحاطَتْ بهِ الذُّؤبانُ مِنْ كُلِّ جانِبِ
وقد ضاقَ في عَيْنَيْهِ ما أوسَعَ الفَضا
وجارَتْ عليهِ مُردِياتُ المَصــائِبِ
فقادوهُ نحوَ المـــوتِ للهِ ما دَجــــــا
مِنَ الخَطْبِ ما أبكى عيـونَ النَّوائِبِ
وقد ذاقَ حَرَّ السّــيفِ صَبْراً مُكَبَّـلاً
وجَرّوهُ في الأسواقِ دامي الجَّوانِبِ
وقد مُزِّقَتْ أشْــلاؤُهُ مُذْ رَمَــوا بهِ
مِنَ القَصْرِ إطفاءَ الضُّغُــونِ اللّواهِـبِ
لِمُسلِمَ فَلْيَبْكِ أولـــوا الدّينِ والتُّقى
دَماً ولْيَــــزِدْ بالنّــوْحِ نَدْبُ النّوادِبِ