خطبة الجمعة 5 شوال 1443: الشيخ علي حسن : الخطبة الثانية: ما ذنب المختوم على قلبه؟

- (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ، خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) [البقرة:6-7].
- كيف يمكن أن نوفّق بين مدلول هذه الآية الشريفة وآيات أخرى من قبيل قوله تعالى: (وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَابًا مَّسْتُورًا، وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا) [الإسراء:45-46] وبين ما نؤمن به من أن الله جعل الناس مختارين، وعلى أساس ذلك يستحقون العقوبة؟
- فالختم على القلب، ووجود الغشاوة، والحجاب، والأكنّة (الأغطية)، والوقر في الآذان (الثقل فيها)، كلها تعني وجود فِعل وتدخّل إلهي لمنع هؤلاء من الإيمان، فكيف يعاقبهم الله بعد ذلك على أمرٍ قد سلب منهم الاختيار فيه وكانوا مجبرين عليه، وهو القائل: (وَمَآ أَنَاْ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ) [ق:29].
- هناك ثلاثة اتجاهات في تفسير الآية:
- الاتجاه الأول يذهب إلى أن التعبير في هذه الآيات مجازي، وكأن الله تعالى يقول: [افترضوا أنني خلقت هؤلاء وقد خُتم على قلوبهم، وعليها أكنّة، وفي آذانهم وقر خَلْقي، وبينهم وبين القرآن حجاب يمنعهم من الاطلاع عليه قراءةً أو استماعاً أو فهماً... فالنتيجة الوحيدة المترتبة على ذلك أنهم لن يستفيدوا شيئاً فيما لو أنذرهم النبي (ص) ووضّح لهم الحقائق وسعى لهدايتهم].
- افترض أنك جلست أمام خروف، وصرت تشرح له – ولأشهر متمادية - مفاهيم الإسلام وشرائعه، هل سيعقل هذا الخروف شيئاً من كلامك؟
- وتصوّر لو أنك جلست أمام حائط، وصرت تدرّسه القرآن، أكان يستوعب شيئاً من ذلك؟
- إن حال هؤلاء القوم -تماماً- حال هذا الخروف، وحال هذا الحائط في عدم الاهتداء، لا لأنهم خُلقوا بلا عقل أو ممنوعين من الهداية، بل إن إصرارهم على الكفر كإصرار من لا يملك القابلية على الفهم والاهتداء.
- أما الاتجاه الثاني فيذذهب إلى القول بأن الآيات تشير إلى السبب الأعمق في هداية الإنسان وضلاله. صحيح أن الإنسان مختار في ذلك كله، ولكن يا تُرى من الذي أعطاه العقل؟ من الذي جعله مختاراً؟ من الذي وفّر أدوات الهداية كالرسل والكتب السماوية، وأدوات الإضلال كالشيطان؟
- إنه الله سبحانه... ألا يستطيع الله أن يمنع الشيطان من التأثير علينا؟ بلى يستطيع... ألا يستطيع أن يجبر الإنسان على الهداية؟ بلى يستطيع... ألم يكن بمقدوره أن لا يوجِد هذه القوانين الخاصة بالهداية والضلال؟ بلى يستطيع... ألا يستطيع أن يعطّل القوانين التي وضعها؟ بلى.
- وحيث أنه خلقنا بهذه الصورة، ومكّن الشيطان من الوسوسة، ولم يجبرنا على الهداية، وهو الواضع للقوانين، وهو الذي لم يعطّلها، لذا صحّ أن يُنسب الفعل إلى اللّه دون نسبة الظلم إليه.
- فلو أشعلتُ ناراً، ووضعت يدي فيها فاحترقَت، صحّ أن أقول: أنا أحرقت يدي بنفسي، كما يصح أن يقال أن الله وراء إحراق يدي، فهو الذي خلق النار محرقة، وخلقني قابلاً للاحتراق، ولكنني مع
هذا لم أكن مجبراً من قبل الله على حرق يدي.
- هكذا هو الأمر تماماً في ما له علاقة بالهداية والضلال، وهذا لا يستلزم نسبة الظلم إلى الله، كما لا يستلزم نسبة القُبح إليه، لا من قريب ولا من بعيد.
- الاتجاه الثالث يذهب إلى أن الآيات بصدد بيان العقوبة النازلة بفئة معيّنة من الكافرين نتيجة جحودهم وإصرارهم على الكفر والعناد والطغيان في ذلك، كما جاء في الآية الكريمة: (فَلَمَّا زَاغُواْ أَزَاغَ اللّه قُلُوبَهُمْ) [الصف:5]، لا أنها بصدد بيان حال كل الكافرين.
- وقد بيّن الإمام الصادق (ع) فيما روي عنه في الكافي وجود أصناف من الكفر حيث سأله الراوي: (أخبِرْني عن وجوه الكفر في كتاب الله عز وجل، قال: الكفر في كتاب الله على خمسة أوجه، فمنها كفر الجحود، والجحود على وجهين، والكفر بترك ما أمر الله، وكفر البراءة، وكفر النعم) ثم استرسل الإمام في بيان الاختلافات بين هذه الوجوه.
- لقد اختارت هذه الفئة -وبإرادتها وجبروتها- أن تصرّ على الكفر وتجحد بالإيمان، ولذا: (سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ)، وقد حوّلت موقفها إلى مواجهة، وأعلنت الحرب على الله والنبي والقرآن والرسالة والمؤمنين، فلذا عاقبهم الله في الدنيا بأن أغلق عليهم أبواب الهداية مطلقاً.
- (إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) [يونس:44]، هذه هي القاعدة العامة التي نؤمن بها في أوضاع الناس في هذه الحياة، وفي مصير الناس في الآخرة، وهي القاعدة الحاكمة على الآيات التي قد يظهَر منها أنها تَنسب هدايةَ الناسِ وضلالَهم إليه عزّ وجل، سواء أ قبلنا بالاتجاه التأويلي الأول لفهم الآيات أو الثاني أو الثالث، فالقرآن الكريم يؤكّد على الدوام على المسئولية الشخصية في ما يصدر عن الإنسان من عمل، وعلى أساس ذلك يستحق العقوبةَ: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ)[فصلت:46].