اللهم اهدِ قومي ـ مقال للشيخ علي حسن

يعد القرآن الكريم المصدر الأساس في تكوين صورة النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم في شخصيته وفي أخلاقه وفي روحيته وفي فكره وفي سلوكه، ومن خلال القرآن نكوّن الصورة الحقيقية له، فهو الحكم الأساس، وما عارضه فهو زخرف وباطل، أو يحتاج إلى تأويل. فكيف كانت مشاعر النبي ـ وفق الصورة القرآنية ـ وهو يدعو معارضيه من المشركين إلى التوحيد؟
حزن وحسرة وبخوع:
1. الحزن عليهم لأنَّهم لم ينتفعوا بالدعوة ولم يستجيبوا لمصالحهم فيها. قال تعالى: (وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ) النحل:127.
2. الحسرة الشديدة: (أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ) فاطر:8. أي لا تغتم ولا تتألم لإصرارهم على الكفر والجحود إلى الدرجة التي تعرّض فيها نفسك إلى الموت.
3. بخوع النفس: (لعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) الشعراء:3. أي لا تهلك نفسك من شدة وجدك وحبك لهم حين تجدهم لا يؤمنون بما تدعوهم إليه بما فيه نجاتهم وصلاحهم، فلابخوع في اللغة بمعنى الهلكة من الوُجد.
إذاً فمجمل الصورة القرآنية لمشاعر النبي تجاه قومه المشركين أنه كان يحمل تجاههم مشاعر إنسانية إيجابية راقية هي مزيج من الوُجد الشفقة والحرص عليهم في الوقت الذي يبغض فيهم كفرهم وشركهم، فكان يدفعه ذلك إلى أن يبذل كلّ ما بوسعه لإنقاذهم، بحيث كان قلبه المبارك يبكي أسفاً وحزناً عليهم.
وهذه المشاعر الإيجابية كانت سراً من أسرار نجاحه في الدعوة إلى الله سبحانه، وهي لم تكن منه تصنعاً بل واقعاً يعيشه، لأن المنافق المتصنع مهما خدع الآخرين فسينكشف لهم واقعه في موقف ما.
اغفر لقومي:
وفي هذا الإطار ما روي أنه لما كُسرت رباعيته وشجّ وجهه يوم أحُد شق ذلك على أصحابه شديداً وقالوا: لو دعوتَ عليهم! فقال: صلى الله عليه وآله وسلم: (إني لم أبعث لعاناً ولكني بعثت داعياً ورحمة، اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون).
وإذ عاش النبي هذه الروحية تجاه المشركين، إلا أن ذلك لم يكن على حساب الرسالة بتقديم التنازلات لهم والانحراف عن الخطّ وتمييع المضمون الإيماني للحصول على رضاهم، وقد عاش عدّة تجارب من الضغوط التي كان المشركون يوجهونها له ليجتذبوه، قال تعالى: (وَإِن كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَّاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا، وَلَوْلَا أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا، إِذًا لَّأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا) الإسراء:73-75. وهذا التثبيت هو القوّة الروحية التي أودعها اللّه في شخصيته من ملكة العصمة ومناعة الروح وثبات الفكر، بالإضافة إلى التسديد الدائم بما كان ينزل من القرآن ليكشف له الحقائق ويبين له الموقف الصحيح ويدفع عنه كيد أعدائه، قال تعالى (وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ) هود:120. ولم تكن المسألة إذاً علاجاً طارئاً لمشكلة جديدة في مواجهة الفتنة.
نحن وأخلاقيات النبي:
فهل نمتلك نحن ـ عموم المسلمين ـ مثل هذه الروحية أو جزء منها مع من نختلف معهم؟ وكلّنا يدّعي التزامه بسنة النبي.. وهل نعيش هذه الروحية مع من نختلف معهم في الانتماء المذهبي؟ بل هل نمتلك هذه الروحية في التعامل مع من نختلف معهم في الدائرة المذهبية الواحدة على أساس الاختلاف في التقليد أو الرأي في المواقف السياسية أو غيرها؟ أم أن القلوب مشحونة والضغائن متراكمة؟ وهل نعيش الحسرة وتعتصر الآلام قلوبنا وتذهب أنفسنا حسرات على من نعتقد بانحرافه أو خطأ موقفه؟
ميثاق التعايش الطائفي:
وكلمة للذين يدعون إلى التعايش السلمي والتقارب المذهبي، (وأنا شخصياً مع كل سعي في اتجاه التقريب والتعايش السلمي، لاسيما ضمن الظروف الحالية التي تشهد تصعيداً طائفياً عبر وسائل الإعلام والخطابات النارية لبعض من يعتبرون أنفسهم من القيّمين على الدين، مما ينذر بقرب تنفيذ مخطط ما يراد تمريره على المنطقة بصورة سلمية أو عسكرية تصب في الأخير في مصلحة إسرائيل)، وقد جاءت أخيراً دعوة من الشيخ عائض القرني بصياغة (ميثاق التعايش الطائفي)، وهي دعوة إيجابية على عكس سياسة الإلغاء، إلا أن مثل هذه المشاريع لا تعمّر ما دامت الأحقاد هي الحالة الحاكمة، وأكثرها امتداد لأحقاد الماضي، بل لابد من تأصيل سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم من خلال الصورة القرآنية المقدمة، صورة المحب لأخيه الإنسان، المشفق عليه، وإن اختلف معه وكره عمله ومعتقده. هذه الصورة الراقية قد لا يهضمها كثيرون، لأنهم لم يفهموا الإسلام، ولم يعرفوا نبي الإسلام، ولا يعيشون إلا صورة السيف والدم التي لا تمثل في حقيقتها إلا جزء من الصورة.
وصية النبي:
لقد كانت وصية النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حجة الوداع: (أيها الناس لا ألفينكم بعدي ترجعون كفاراً، يضرب بعضكم رقاب بعض وأيم الله لئن فعلتموها لتعرفنني في الكتيبة التي تضاربكم)، والانتماء لرسول الله ليس مجرد شكليات ومظاهر خالية من الجوهر، بل هو في عمق الشخصية المؤمنة لينعكس من خلال السلوك والمشاعر والفكر.