الأئمة وخيار الثورة ـ مقال للشيخ علي حسن

يتصور البعض أن الثورة ـ كثورة سيد الشهداء الإمام الحسين ـ هي الأصل في طبيعة تحرك الأنبياء والأئمة عليهم السلام، أي أن كل سلوك سلمي ومخالف للسلوك الثوري من قبلهم سيكون خلاف الأصل وسيحتاج إلى المبررات الشرعية. ولكن بالعودة إلى سلوك كل الأنبياء المذكورين في القرآن، نجد أن من منهم من ثار وقاد حرباً ضد أعدائه، ومن منهم عمل بالأسلوب السلمي وهم الأكثر، ولا توجد مؤشرات واضحة على أن الحالة الثورية هي الأصل في التحرك. لذا يمكن القول أن الثورة خيار يُعمل به متى ما كانت الظروف مهيأة لها فقط، وليست هي الأصل في طبيعة تحركهم عليهم السلام. ولذا ليس من الصحيح ما قام ـ ويقوم ـ به البعض من التشكيك في مصداقية سلوك الأئمة الذين لم يثوروا اعتماداً على أن الأصل هو كون الإمام قائماً بالسيف ـ كما قالت به الزيدية ـ وإلا سقطت إمامته عن الاعتبار.
عقم منطق الثورة:
وهكذا وقع البعض في خطأ آخر له علاقة بالفكرة السابقة، إذ اعتبر أن التجربة الحسينية قد أكدت لأهل البيت عليهم السلام عقم منطق الثورة، لهذا عزفوا حتى عن التدخل في الحياة السياسية بعد ذلك، رغم العروض المغرية نسبياً التي قدمت لهم، كعرض ولاية العهد على الرضا عليه السلام.
مقوّمات النهوض:
وهذا الكلام خاطئ وغير دقيق، فبعد أن اتضح من خلال المقدمة أن الثورة ليست الأصل في طبيعة تحرك المعصوم، وأن الثورة تحتاج إلى مقومات وظروف ومبررات شرعية معينة، لذا لابد أن نسأل ما هي تلك المقومات والمبررات المطلوبة للثورة، لنرى هل تحققت بعد الحسين عليه السلام وعزف عنها الأئمة لاقتناعهم بعقم هذا المنطق؟
المبرر الأول: استلام الحكم ليتم من خلاله الإصلاح، وهو مبرر عقلي وشرعي، ولكنه ليس المبرر الوحيد، فلو كانت انطلاقة ثورة الإمام الحسين وفق هذا المبرر، فإن من الواضح أن المبرر تغير حين وجد الإمام الحسين أن الظروف غير مواتية لاستلام الحكم، ومع هذا استمر في ثورته، الأمر الذي يعني أن المبرر الشرعي للثورة لابد وأن يكون شيئاً آخر سوى ذلك.
المبرر الثاني: أن تكون الثورة بمثابة الشرارة التي تعمل على إيقاظ الأمة وكشف الحقائق وتحريك الناس لتغيير الأوضاع، وهذا هو الأقرب إلى ما أراده الإمام لاسيما إذا راجعنا خطبه وكلماته عليه السلام.
إعراض الإمام الصادق:
والآن نسأل: هل تهيأ شئ من هذه الظروف والمبررات للأئمة من بعد الحسين فلم يثوروا لاقتناعهم بعقم هذا المنطق؟ أما المبرر الأول ـ أي استلام الحكم ـ فلم يكن متوفراً، فإن أفضل الظروف المهيأة لذلك كانت أواخر العهد الأموي حيث ثار العلويون مع العباسيين ضد الدولة الأموية المتهالكة الأركان، ومع هذا لم يخرج الإمام الصادق عليه السلام مع الثائرين، لأنه كان يدرك أن الأمور لن تؤول إلى العلويين، إما لاطلاعه على ما ستؤول إليه الأمور من خلال ما توارثه الأئمة من علم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، كما تدل على ذلك بعض الروايات ومنها ما نقله المؤرخون كالأصفهاني في مقاتل الطالبيين، قال: (وجاء جعفر بن محمد فأوسع له عبد الله بن الحسن إلى جنبه فتكلم بمثل كلامه فقال جعفر: لا تفعلوا فإن هذا الأمر لم يأت بعد، إن كنت ترى ـ يعني عبد الله ـ أن ابنك هذا هو المهدي فليس به ولا هذا أوانه، وإن كنت إنما تريد أن تخرجه غضباً لله وليأمر بالمعروف وينهى عن المنكر فإنا والله لا ندعك وأنت شيخنا ونبايع ابنك. فغضب عبد الله وقال: علمتَ خلاف ما تقول، ووالله ما أطلعك الله على غيبه ولكن يحملك على هذا الحسد لابني. فقال: والله ما ذاك يحملني ولكن هذا وإخوته وأبناؤهم دونكم. وضرب بيده على ظهر أبي العباس ثم ضرب بيده على كتف عبد الله بن الحسن وقال: إنها والله ما هي إليك ولا إلى ابنيك ولكنها لهم. وإن ابنيك لمقتولان. ثم نهض وتوكأ على يد عبد العزيز بن عمران الزهري. فقال: أرأيت صاحب الرداء الأصفر ـ يعني أبا جعفر ـ؟ قال: نعم. قال: فإنا والله نجده يقتله. قال له عبد العزيز: أيقتل محمداً؟ قال: نعم. قال: فقلت في نفسي: حسده ورب الكعبة. قال: ثم والله ما خرجت من الدنيا حتى رأيته قتلهما. قال: فلما قال جعفر ذلك انفض القوم فافترقوا ولم يجتمعوا بعدها. وتبعه عبد الصمد وأبو جعفر فقالا: يا أبا عبد الله أتقول هذا؟ قال: نعم أقوله والله وأعلمه). ثم روى الأصفهاني: (عن عنبسة بن نجاد العابد قال: كان جعفر بن محمد إذا رأى محمد بن عبد الله بن حسن تغرغرت عيناه ثم يقول: بنفسي هو، إن الناس ليقولون فيه إنه المهدي وإنه لمقتول. ليس هذا في كتاب أبيه علي من خلفاء هذه الأمة).
وإما أن نفسر ذلك بأنه ناتج من البصيرة النافذة التي يتحلى بها المؤمنون فكيف بالإمام؟ ففي الحديث المروي في الكافي: (اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله عزوجل). وعلى كل حال النتيجة واحدة.
إيقاظ الأمة:
أما المبرر الثاني ـ أي إيقاظ الأمة وكشف الحقائق وتحريك الناس لتغيير الأوضاع ـ فقد تحقق على يد الإمام الحسين عليه السلام سلفاً، ولم تهدأ الساحة الإسلامية أيام الأمويين والعباسيين سواء بقيادة العلويين أو الخوارج أو القادة العسكريين أو غيرهم. وعليه فإن مبررات الثورة ضمن الظروف التي عاشها الأئمة عليهم السلام لم تكن متوافرة، ولذا لم يثوروا، لا أن ذلك عائد إلى قناعتهم بعقم النطق الثوري من أساسه.
إحياء الثورة الحسينية:
ومما يؤكد ما سبق أن الأئمة عليهم السلام اجتهدوا في إحياء ذكرى الثورة الحسينية من خلال مراسيم زيارة الحسين وإقامة العزاء وإحياء ذكرى عاشوراء والحث عليها بشدة، ولم يكن ذلك مجرد إثارة عاطفية، بل بهدف تعميق قيم الثورة وأهميتها.