خطبة الجمعة 21 رمضان 1443: الشيخ علي حسن : الخطبة الثانية: مواجهة السفهاء

- في الحكمة 211 من نهج البلاغة: (الْحِلْمُ فِدَامُ السَّفِيهِ) والفدام: رباط الفم.
- من حين إلى آخر يظهر على الساحة أحد السفهاء الذين يحاولون الإساءة إلى الإسلام بطريقة استفزازية أو بأخرى، تارة بالإساءة إلى الدين ككل، وأخرى إلى شخص رسول الله (ص)، وثالثة بالإساءة إلى كتاب الله عز وجل بالحرق أو ما شابه.
- وعادةً ما يستهدف هؤلاء الشهرةَ من وراء هذه الإساءات، أو تحقيق مكاسب انتخابية، أو التنفيس عن بعض العُقد الشخصية، أو نتيجة التعصب الشديد، قومياً، أو عرقياً، أو دينياً، أو غير ذلك.
- قبل أيام، قام أحد السفهاء في السويد بإحراق المصحف الشريف علناً، في شهر رمضان، في ساحة مفتوحة، بإعلان مسبق، وبحماية من الشرطة.
- لاشك أن مثل هذا العمل الإجرامي مُدان بأشد صور الإدانة، وقد صدرت ردة فعل عنيفة في السويد من قبل مجاميع من الشباب المسلم المتحمّس للدفاع عن كتاب الله سبحانه، فجزاهم الله خير الجزاء على حماستهم وغيرتهم.
- ولكن يا تُرى هل من سبيل آخر لمواجهة مثل هذه الإساءات والسفاهات؟ ألا نكون بردة الفعل العنيفة قد ساعدنا أمثال هذا المجرم السفيه في تحقيق أجندته، سواء كانت الشهرة، أو تغذية اليمين المتطرف، أو سلب الأمن عن الجاليات المسلمة في الغرب، أو أياً كانت غايته؟
- قد تكون الحكمة التي قدّمتُها عن أمير المؤمنين (ع) تقدّم القاعدة في التعامل مع السفهاء من أمثال (راسموس بالودان) وجماعة حركة (سترام كورس = الخط المتشدد) اليمينية، وتتمثّل في لَجْمهم بالحِلم والتجاهل وامتلاك الوعي بكيفية التعامل الحكيم مع مثل هذه المؤامرات والاستفزازات، لئلا ننجرّ إلى مخطّطاتهم، ولا نكون الأداة التي من خلالها يُحقِّقون أهدافَهم الخبيثة، بل ولربما أهداف أطراف مخابراتية تحرّك اليمين المتطرف من حيث لا يعلمون، وتقطف ثمار ردود الفعل العنيفة الصادرة عن المسلمين بزعزعة مستقبلهم وأمنهم في تلك البلاد التي وفدوا عليها.
- وهذا هو المنهج القرآني الماثل أمامنا ونحن نقرأ قوله تعالى:
- (وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلاً) [المزمل:10].
- ماذا كانوا يقولون؟ (وَعَجِبُوا أَن جَاءَهُم مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ) [ص:4].
- (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ، أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَم بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ) [سبأ:7-8].
- (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاؤُوا ظُلْمًا وَزُورًا، وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً) [الفرقان:4-5]
- لاحظوا حجم الإساءات بحق رسول الله وبحق القرآن، وهي مجرد نماذج من سفاهاتهم، فما هو الموقف من كل ذلك؟ (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) [الأعراف:199].
- قد يقال أن المشركين كانوا أقوياء في مكة والنبي (ص) بينهم، ولذا أُمِر بذلك، وأن الأمر اختلف لاحقاً بعد الهجرة.. إلا أن هذا الكلام غير دقيق، فقد صدرت إساءات عديدة من المنافقين في المدينة ونقل القرآن الكريم بعضاً منها، ومن بينها: (يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ) [المنافقون:8]... فهل اختلف الموقف تجاه هذه الإساءات؟ كلا، حتى حينما كان المسلمون في أوج قوتهم بعد فتح مكة وخلال عام الوفود.
- وهكذا صدرت إساءات عديدة من قبل اليهود ولخّصتها الآية التالية: (وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا)... ما هو الموقف؟ (وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَٰلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) [آل عمران:186].. وهو ما يتناغم مع قول علي (ع): (الْحِلْمُ فِدَامُ السَّفِيهِ).
- ويبدو أن حماسة بعض المسلمين كانت تدفعهم للمطالبة بموقف أشد، فكيف جاء التوجيه القرآني في نفس السورة: (لَن يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى) هذا الكلام القبيح والجارح والإثارات المسيئة لن تتجاوز الأذى النفسي والاعتباري بحقكم، فليس المطلوب الرد بالعنف.. نعم: (وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ) وهنا اختلفت المسألة (يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنصَرُونَ) [110-111] كيف؟ من خلال موقفكم القوي في مواجهة القوة بالقوة وعدم قبول الذل.
- والآن دعونا نتصوّر المشهد لو أن المسلمين في السويد بادروا لعقد فعالية كبيرة ومنظمة وبالتنسيق مع الجهات الرسمية في نفس اليوم المقرر لحرق المصحف الشريف، وبالقرب منه، وركّزوا على الأبعاد الإنسانية في القرآن الكريم، والآيات الداعية إلى التسامح والتعايش المشترك والتعارف وما إلى ذلك، وأشركوا معهم بعض رجال الدين المسيحيين وغيرهم، وبعض الشخصيات الاجتماعية والرسمية السويدية، وحوّلوا هذه الفعالية إلى مهرجان للتبرّع لقضيّة إنسانية، كالأطفال المصابين بمرض السرطان، أو الأيتام، أو المشردين، بغضّ النظر عن الانتماء الديني أو العرقي أو غير ذلك، يا ترى، أما كان ذلك أقرب للحكمة؟ ألم يكن تصرّفاً أفضل لسحب البساط من تحت أقدام أمثال هؤلاء السفهاء في أيِّ مشروع مستقبلي لإساءة متجددة؟ إنها دعوة للمسلمين في السويد وغيرها من المجتمعات الغربية أن لا يقعوا فريسة الاستفزاز والاستدراج الذي يمارسه أصحاب الأجندات المتطرفة، أو الساعين وراء الشهرة، أو المكاسب الانتخابية، أو تدمير أوضاع الجاليات الإسلامية فيها، ولعلها تأتي -من حيث لا يعلمون- للتغطية على جرائم الكيان الصهيوني القائمة هذه الأيام وتوجيه الأنظار بعيداً عنها وتخفيف الضغط عنها، تماماً كما تعوّدنا استعمال المجرمين الدواعش في تفجيرات أفغانستان أو غيرها لنفس الغاية... فالتزامن في الأحداث غير برئ.