كيف تهدم سد مأرب ؟ وماهي القرى الظاهرة ؟ تلاوة وتفسير سورة سبأ 15-19

{ لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُواْ مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَٱشْكُرُواْ لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ } 15
- جرَّ خبرُ سليمان عليه السلام إلى ذكر سبأ:
1. لما بين مُلك سليمان وبين مملكة سبأ من الاتصال بسبب القصة المعروفة مع ملكتها.
2. ولأن في حال أهل سبأ مضادة لأحوال داود وسليمان، إذ كان هذان مثلاً في إسباغ النعمة على الشاكرين، وكان أولئك مثلاً لسلب النعمة عن الكافرين.
3. وفيهم موعظة للمشركين إذ كانوا في بحبوحة من النعمة فلما جاءهم رسول من المُنعِم عليهم يذكرهم بربهم ويوقظهم بأنهم خاطئون إذ عبدوا غيره، كذّبوه وأعرضوا عن النظر في دلالة تلك النعمة على المنعِم المتفرد بالإِلٰهية.
4. مملكة داود وسليمان نموذج للملكة المؤمنة التي كُتب لها أن لا تبقى، ومملكة سبأ نموذج للمملكة الكافرة التي كُتب لها أن لا تبقى أيضاً، فمهما عظُم مُلك الدنيا وامتد فهو قصير الأمد فان، بخلاف مُلك الآخرة.
5. تشبيه حال دواد وسليمان في شخصيهما بحال رسول الله، وحال مملكة سبأ بمُلك قريش.
6. رسالة لقريش لعدم الاغترار بالمُلك، فهم ليسوا أفضل حالاً من سبأ. ولذا اعتبر لسبأ في حال مساكنهم ونظام بلادهم آية. والآية هنا الأمارة والدلالة بتبدل الأحوال وتقلب الأزمان
- (لَقَدْ) تأكيد بلام القسم وحرف التحقيق، لتنزيل المخاطبين بالتعريض بهذه القصة منزلةَ من يتردد في ذلك لعدم اتعاظهم بحال قوم من أهل بلادهم،
- (مَسْكَنِهِمْ) المساكن البلاد التي يسكنونها وديار السكنى بقرينة قوله { جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ }
- واسم سبأ يطلق على الأمة كما هنا، وعلى بلادهم كما في آية النمل (فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ) [النمل:22].
- (جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ) مدينتهم وهي مأرب كانت محفوفة على يمينها وشمالها بغابة من الجنات. وكان ذلك بسبب تدبير ألهمهم الله إياه في اختزان المياه النازلة في مواسم المطر بما بنوا من السد العظيم في مأرب.
- (كُلُواْ مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَٱشْكُرُواْ لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ) أعطاهم الفرص المتتالية وآمنوا لفترة على عهد سليمان ثم عادوا إلى الكفر وغُفر لهم، ولكنهم تمادوا.

{ فَأَعْرَضُواْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ ٱلْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ } 16
- لما كفروا بالله بعد الدعوة للتوحيد، ولم يعملوا في تلك النعم بما يمثّل حالة الشكر لله، في رعاية الفقراء مثلاً، وترسيخ العدل، قدّر الله لهم عقاباً بأن قدّر أسباب انهدام السد، فاندفع ما فيه من الماء فكان لهم غرقاً وإتلافاً للأنعام والأشجار، ثم أعقبه جفاف باختلال نظام تساقط الأمطار وانعدام الماء وقت الحاجة إليه، وهذا جزاء على إعراضهم وشركهم.
- { ٱلْعَرِمِ } وصف من العرامة وهي الشدة والكثرة، ويجوز أن يكون اسماً للسيل الذي كان ينصبّ في السد، وكانت للسيول والأودية في بلاد العرب أسماء كقولهم (سيل مهزور ومذينيب) الذي كانت تسقى به حدائق المدينة، أو أن (العرم) ما بني ليمسك الماء (السد) وهو لغة يمنية وحبشية.
- سبب انهدامه اشتغال ملوكهم بحروب داخلية بينهم ألهتهم عن تفقّد ترميمه حتى تخرّب، أو يكون قد خربه بعض مَن حاربهم مِن أعدائهم، أو الفساد الإداري والمالي الذي قد يستشري.
- (وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ) (الخمط) المر.
- صارت بلادهم قاحلة ليس فيها إلا شجر العِضاه والبادية، فانهارت اقتصادياً، وآثار الانهيار الاقتصادي سياسياً واجتماعياً وأخلاقياً كثيرة جداً.
{ ذَٰلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُواْ وَهَلْ نُجَٰزِيۤ إِلاَّ ٱلْكَفُورَ } 17
- الكفر هو الكفر بالله، أي إنكار إلهيته لأنهم عبَدةُ الشمس، والكفر بالنعم.
- (وَهَلْ نُجَٰزِيۤ إِلاَّ ٱلْكَفُورَ) استفهام إنكاري في معنى النفي. أي لا نجازي إلا الكفور.
- (ٱلْكَفُورَ) الشديد الكفر المصرّ عليه المتمادي فيه.
{ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ٱلْقُرَى ٱلَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا ٱلسَّيْرَ سِيرُواْ فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ } 18
- بالإضافة لِنعمة الرخاء والبهجة وطيب الإِقامة التي كانوا يتمتعون بها بفضل الله، كانت لديهم نعمة أخرى تمثّلت في نعمة الأمن وتيسير الأسفار.
- المراد بالقرى التي بوركت قرى بلاد الشام، فكانوا إذا خرجوا من مأرب إلى البلاد الشامية قوافل للتجارة وبيع الطعام سلكوا طريق تهامة ثم الحجاز ثم مشارف الشام ثم بلاد الشام.
- فكانوا كلما ساروا مرحلة وجدوا قرية أو بلداً أو داراً للاستراحة واستراحوا وتزودوا. فكانوا من أجل ذلك لا يحملون معهم أزواداً إذا خرجوا من مأْرب. كما أن تقارب القرى يقلل احتمالات التعرض للسلب والنهب على يد قطّاع الطريق، على خلاف الفيافي والطرق المنقطعة.
- ويحتمل أن سبأ أقاموا مباني يأوون إليها عند كل مرحلة من مراحل أسفارهم واستنبطوا فيها الآبار والمصانع وأوكلوا بها من يحفظها ويكون لائذاً بهم عند نزولهم. فيكون ذلك من جملة ما وطَّد لهم ملوكهم من أسباب الحضارة والأمن على القوافل، وقد تكون إقامة هاته المنازل مجلبة لمن يقطنون حولها ممن يرغب في المعاملة مع القافلة عند مرورها.
- وعلى الاحتمالين فإسناد جعل تلك القرى إلى الله تعالى.
1. لأنه الملهم الناس والملوك.
2. أو لأنه أذِن وشاء ذلك ووفّقهم لتحقيقه، (وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى).
3. أو لأنه وضع القوانين الاجتماعية والطبيعية التي مهّدت لتحقّق ذلك.
- (قُرًى ظَاهِرَةً):
1. متقاربة بحيث يظهر بعضها لبعض ويتراءى بعضها من بعض.
2. تظهر للسائر من بُعد، بأن كانت القرى مبنية على الآكام يشاهدها المسافر فلا يضل طريقها.
3. خارجة عن المدن، فهي في ظواهر المدن، كتسمية الناس إياها بالضاحية.
- (وَقَدَّرْنَا فِيهَا ٱلسَّيْرَ) أبعادها على تقدير وتَعادل بحيث لا يتجاوز مقدار مرحلة. فكانَ الغادي يقبل في قرية والرائح يبيت في قرية.
- (سِيرُواْ فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ) سيروا بينها كيف شئتم. وكانوا يسيرون غدوًّا وعشيًّا فيسِيرون الصباح ثم تعترضهم قرية فيريحون فيها ويقيلون، ويسيرون المساء فتعترضهم قرية يبيتون بها.
- تقديم الليالي على الأيام للاهتمام بها في مقام الامتنان، لأن المسافرين أحوج إلى الأمن في الليل منهم إليه في النهار، لأن الليل تعترضهم فيه القُطاع والسباع.
{ فَقَالُواْ رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوۤاْ أَنفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ } 19
- فلما تمت النعمة بَطروها، فحَلّت بهم أسباب سلبها عنهم. ومن أكبر أسباب زوال النعمة كفرانها.
- واحتمل البعض أن يكون هذا القول قالوه جواباً عن مواعظ أنبيائهم والصالحين منهم حين ينهونهم عن الشرك، فهم يعظونهم بأن الله أنعم عليهم بتلك الرفاهية، وهم يجيبون بهذا القول إفحاماً لدعاة الخير منهم على نحو قول كفار قريش{ اللهم إن كان هذا هو الحقَّ من عندك فأمطِرْ علينا حجارةً من السماء أو ائتنا بعذاب أليم } الأنفال 32.
- (وَظَلَمُوۤاْ أَنفُسَهُمْ) بالشرك، أو أن الواو واو الحال، أي قالوا ذلك وقد ظلموا أنفسهم. وعلى الاعتبارين فإن العقاب إنما كان مسبباً بسببين، كفر النعم والشرك.
- (فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ) تحوّل ذلك الواقع الجميل المعاش، وتلك القوة الاقتصادية الضاربة إلى حكاية من حكايات الأمم الغابرة، لا أثر له، وأبادهم الله حين تفرقوا بعد سيل العرم فكان ذلك مسرعاً فيهم بالفناء بالتغرب في الأرض والفاقة وتسلط العوادي عليهم في الطرقات.
- (إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) افتتاحها بأداة التوكيد للاهتمام بالخبر.
- وجُمع «الآيات» لأن في تلك القصة عدة آيات وعِبَر، في قضية النعم، وفي زوالها بالكفر والشرك، وفي كونه غفوراً، وفي أهمية الأمن، وفي تبدّل الأحوال، وفي خطورة التفرق.... إلخ.
- { صَبَّارٍ شَكُورٍ } لإِفادة أن واجب المؤمن التخلق بالخُلقين، وهما كثرة الصبر على المكاره (فلا يجزع) ويعيد بناء ما تدمّر، ويواجه الصعوبات ولا يحوّلها إلى سبب للصراعات البينية ولا يتمرّد على إيمانه وقيمه وأخلاقياته، واستدامة الشكر على النعم وتكثيرها عند توافرها.
- ولعلهم لما فقدوا المورد الاقتصادي الداخلي بانهدام السد، تحوّلوا للاعتماد على التجارة الخارجية، ولكنهم لم يتّعظوا من تجربتهم السابقة، فعاودوا الكفر بالنعم، والتمرّد على من يدعوهم لتوحيد الله والرجوع إليه، وعادوا للطغيان بحيث اتخذوا إجراءات تعسفية بحق القاطنين في القرى الظاهرة، كفرض الضرائب المرتفعة والقهر وما شابه ذلك، فهُجرت تلك القرى، وصارت طرق السفر غير آمنة وصعبة، مما أثّر عليهم اقتصادياً فيما بعد، وصارت بدلتهم معرّضة للغزو والسلب والنهب.
- ولعل هذا حدث بالتوازي مع ما قبل انهدام السد. فكان الأمران قاصمين للظهر، ولم يبق شئ يُعتمَد عليه فهاجروا.


)وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَٱتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقاً مِّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ ، وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يُؤْمِنُ بِٱلآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفُيظٌ)20-21
- هل هذا تعقيب بوصف حالهم، أم حديث عن قريش تتميماً لما جاء في بداية السورة؟ يحتمل الأمران، وأنها رسالة مبطّنة لقريش.