خطبة الجمعة 5 ربيع الآخر 1442: الشيخ علي حسن : الخطبة الثانية: عودة القصاصين - 2


- تحدثت في الأسبوع الماضي عن ظاهرة القصاصين، وكيف عاودوا الظهور في العهد الإسلامي بعد أن منعهم النبي (ص)، كما وأبرزت موقف أمير المؤمنين علي (ع) منهم، وذكرت أن الخطير في الأمر أنهم دمجوا بين الوعظ والقص، وبين تعاليم الدين وتاريخه وبين أساطيرهم ومختلَقاتهم، ودخلت قصصهم الموضوعة وعظاتُهم في كتب التفسير والحديث والتاريخ وغير ذلك،
ونال بعضهم شهرة في زمانه وسعة تأثير حتى كان عدد حضور بعض المجالس بالآلاف!
- وأريد في هذه الخطبة أن أسلّط الضوء على بعض الآثار السلبية التي نتجت عن هذا الأمر:
1. تخريب معالم الدين ومفاهيمه حينما خاض فيه الجاهلون من القصاصين الذين امتهنوا الوعظ اعتماداً على حُسن أصواتهم وأدائهم المؤثِّر في النفوس، دون امتلاك معرفة دينية رصينة.
- في كتاب (مرآة الزمان) لسبط ابن الجوزي، أن الواعظ عبد الرحمن بن مروان التَّنوخي المَعَرِّي (ت 559هـ) كان (شحّاذًا، نتّاشًا، حَوَّاشًا) صفات تُطلق على أرذل الناس الذين يتكسّبون بالسرقة والاحتيال وأمثال ذلك (يُنشد في صباه في الأسواق، ويمشي على الدَّكاكين، وكان في صوته شجًى...) فهو لا يملك عِلماً ولا معرفة، ولكنه وظّف صوته ومهارته الأدائية فامتهن الوعظ للاسترزاق (ورُزِق قَبولًا، واكتسب من الوعظ مالاً) أما ماذا اختلق، وماذا افترى، فالله أعلم.
2. التلاعب في السيرة النبوية وقصص الأنبياء (ع) والتاريخ الإسلامي وضعاً وإضافة وتحريفاً.
- تحدّث (أبو يوسف الفَسَوي) في كتابه (المعرفة والتاريخ) عن أبي الهيثم سليمان بن عمرو العُتواري الذي كان أحد أشهر الوعاظ في مصر أيام بني أمية، كان يُجيد التأثير والتجييش ونزْع العَبَرات والآهات، ويُقدِّم خدماتِه لقاءَ المال والحظوة، ولذلك قَدِم مصر، فأقام بها يلتمس الرزق والمعاش قال: (كان أبو الهيثم قاصَّ الجماعة بمصر أيام بني أمية، فلما جاء عمّال بني العباس عزلوه عن القصص) لأنه كان يضع القصص بما يحلو للأمويين وهذا لا يناسب العباسيين (فاشتدّ ذلك عليه وقال: ما لكم تعزلونني؟! إنما أنا قاصٌّ، فإن قلتم لي زِد في قَصصِكَ زِدتُ، وإن قلتم قصِّر قصّرتُ؛ فما لكم تعزلونني؟!).
- وذكر (ابن الجوزي) في كتابه (المنتظَم) أن (هذه المحنة تَعمُّ أكثرَ القُصّاص، بل كلَّهم، لبُعدهم عن معرفة الصحيح، ثم لاختيارهم ما يَنفُق على العوام) يكون مقبولاً رائجاً (كيفما اتفق).
3. تشويه صورة الوعظ والواعظين، ففي حين يُراد من الوعظ ربط الناس بالله وتذكيرهم بالآخرة ودعوتهم إلى العبادات والأعمال الصالحة، نجد أن فئة من القصّاصين امتهنوا الوعظ واستعملوا القصص المختلَقة والمحرّفة، ولكن غايتهم من كل ذلك هو الإثراء أو تلبية شهواتهم، فكانوا بئس الأسوة، وكانوا سبباً للنظرة السلبية لدى البعض للدّين والمتديّنين.
- ذكر (الذهبي) في كتابه (تاريخ الإسلام) أن الواعظ ابن نجية الأنصاري (ت 599هـ) اقتنى (أموالاً عظيمة، وتنعّم تنعّماً زائداً، بحيث أنه كان في داره عشرون جارية للفِراش، تساوي كل واحدة ألف دينار) أي ما يقارب 170 ألف دولار (وأكثر، وكان يُعمَل له من الأطعمة ما لا يُعمَل للملوك، وأعطاه الخلفاء والملوك أموالاً عظيمة) ولكن شاء الله أن يُبتلي بالفقر في نهاية المطاف حتى مات، ولم يكن له مال ليُشترى به كفنُه، فكفّنه بعضُ أصحابه!
- وجاء في كتاب (الوافي بالوفيات) للصفدي أن الواعظ محمد بن عبد الله الظريف (ت 576هـ) كان (يُرمَى بأشياء، منها شرب الخمر وشَرْي الجواري المغنّيات، وسماع الملاهي المحرمة، وأُخرِج عن بغداد مراراً لأجل ذلك).
- ولم يقتصر الأمر على الوعّاظ الرجال، بل شمل النساء أيضاً.
- قال (ابن الحاج المالكي) في كتابه (المدخل): (ثم العجب العجيب في اعتقاد بعضهن في هؤلاء الشيخات من النسوة) أي أن العامة كانوا يحترمونهن ويقدّسونهن (وهنّ كما قد عُلم في هذا الزمان لا يمضين لموضع يَعملن فيه إلا بعد إطلاقهن عن [ضامنة المغاني]) أي بالتعبير الحديث (نقابة المغنيات) ضمن التنظيم الإداري للوعظ النسائي بمصر(فتجيء بعد إطلاقها من الضامنة) أخذ الإذن منها (ومعها حفدتُها، ويرفعن عقيرتَهن بالقراءة والذكر جماعة).
4. إثارة الفتن الطائفية من خلال قصصهم والضرب على الوتر العاطفي.
- في سنة 389هـ حدثت في بغداد فتنة عظيمة بين السنة والشيعة، وذكر (سبط ابن الجوزي) في كتابه (مرآة الزمان) أنه مُنع بسببها (القُصَّاصُ من الوعظ)، وبعد هدوء الأمور أُذِن لهم (وشُرط عليهم ألّا يتكلَّموا فيما يوجب الفتنة، واستقامت الأمور).
5. توظيف القُصاص الوعّاظ من قبل الحكّام والولاة للدعاية السياسية، ولإثارة الفتن متى ما شاء الحاكم ذلك تنفيذاً لسياسة (فرّق تسُد)، وغيرها من الغايات، والشواهد كثيرة، ومن بينها ما جاء في قضية الواعظ العُتواري التي ذكرناها في النقطة الثانية.
6. وضع الحديث واختلاقه، وقد قال (ابن الجوزي): (معظم البلاء في وضع الحديث إنما يجري من القُصّاص)، وصنّف (السيوطي) مثلاً كتاباً باسم (تحذير الخواص من أكاذيب القصاص).
- وحيث أن الناس تستهويهم القصص الغريبة وما لم يسمعوا به من قبل، لأنه من نسج الخيال، ولقدرتهم على إثارة المشاعر الحزينة، لذا فقد نجح القصّاصون في اجتذاب الناس إليهم.
- قال ابن قتيبة: (فإنهم يُميلون وجوه العَوَام إليهم، ويستدرّون ما عندهم بالمناكير والغريب والأكاذيب من الأحاديث، ومن شأن العوَام القعود عند القاص ما كان حديثه عجيباً، خارجاً عن خطر العقول) أي لا يخطر على بال (يُحزِن القلوب ويستغزِر العيون) أي يُنزل الدموع بغزارة.
- ومن غريب الأمر أنه عندما يسعى بعض العلماء للتصدّي لأكاذيبهم، تجد أن الناس يميلون إلى مقولات القصاصين! قال (ابن الجوزي): (والقاص يروي للعوام الأحاديثَ المُنكَرة، ويذكر لهم ما لو شمَّ ريحَ العلم ما ذَكره) أي لو كانت لديه ذرة من علم لما قال ما قال (يَخرج العوام من عنده يتدارسون الباطل فإذا أنكر عالمٌ قالوا: قد سمعنا هذا) أي لم نختلقه بل أخذناه من مصدر.
- إنّ اختفاء عنوان (القَصّاصون الوُعّاظ) – اليومَ - لا يعني اختفاءَ الظاهرة في نفسها، لأنها أخذت صوراً وعناوين أخرى بحسب مقتضيات الزمان، وحافظت على ذاتِ السماتِ والآثارِ السلبية، ومِن صورِها بعضُ دعاةِ الفضائياتِ الذين كوّنوا ثرواتٍ هائلة مِن وراءِ برامجهم، وتمّ توظيفُهم لخدمةِ بعضِ الأجنداتِ السياسيةِ والمصالحِ التجارية، فجيّشوا الناس في الفتن المذهبية والصراعات الأهلية، وظهروا في الإعلانات والدعايات التجارية، فشوّهوا صورةَ الدين والمتديّنين، ووضعوا للنصوصِ والفتاوى ما شاءوا مِن تأويلات خِدمةً لأغراضِهم المشئومة. وهكذا الحال بالنسبة إلى بعض قراء العزاء الحسيني، ممّن لم ينالوا من العلوم الدينية أية حَظوة، ولم تكن بينهم وبين التقوى أية رابطة، واعتمدوا في تحقيق شهرتهم أو إقامة مجالسهم على أدائهم الصوتي الشجيّ وتوظيف المرويات الغريبة وحكايا المنامات والقَصص الموضوعة والمعجِزات المختَلَقة وادّعاء الموعظة، وهي أمور تجذب الناس وتستهويهم، فشوّهوا معالمَ الدين والمذهب، وزرعوا في الأذهان ما لا يُحصى من المفاهيم المغلوطة والمعلومات الخاطئة، وبرّروا لأنفسهم اشتراطَ المبالغِ الطائلةِ لِقاءَ إقامةِ مجالسِهم، فأثْرَوا باسم الحسين (ع) وهو منهم برئ، وكانوا أحدَ أسبابِ ارتداد بعض الشباب والميل نحو الإلحادِ أو اللادينية، أو اتّهامِ مدرسةِ أهل البيت بالمغالاة والاعتماد على الخرافة. ولنتذكّر قولَ إمامِنا الباقر (ع) في تأويل قوله تعالى: (فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ) حيث قال: (إلى علمِه الذي يأخذُه، عمّن يأخذُه).