خطبة الجمعة 27 ربيع الأول 1442: الشيخ علي حسن : الخطبة الثانية: عودة القصّاصين

قال تعالى: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَٰذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا، وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَىٰ عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا، قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا) [الفرقان:4-6].
- عرفت المجتمعات البشرية المختلفة القصّاصين عبر التاريخ، وكانوا وسيلة من وسائل التسلية
والإثارة بالنسبة إليهم، لاسيما حين كانوا يخلطون الحقيقة بالخيال، ويتحدّثون عن الآلهة والأبطال الأسطوريين، وعن المخلوقات الغريبة، وعن عجائب الأمم الغابرة والبعيدة جغرافياً.
- ومن هنا، اتّهم بعض المشركين نبيَّنا (ص) والقرآنَ الكريم بالإتيان بأساطير، مشبّهين الإتيان بقصص ثمود وعاد وغيرهما للتحذير والإنذار بتلك التي كان يأتي بها القصّاصون طلباً للمال.
- ولمّا أقام النبي (ص) المجتمع الإسلامي الأوّل في المدينة المنوّرة، منع القصّاصين، واستمر الأمر بعد وفاته لبضع سنوات، ثم ما لبثوا أن عاودوا الظهور على عهد الخليفة عمر وبإذنه.
- في كتاب كنز العمال للمتقي الهندي: (عن السائب بن يزيد أنه لم يكن يُقَصّ على عهد النبي (ص) ولا أبي بكر ولا عمر، وكان أولَ مَن قصّ تميمُ الداري) وكان نصرانياً فأسلم على عهد النبي (استأذن عمر أن يقصّ على الناس قائماً، فأذِن له) ويبدو من بعض الأخبار أن الخليفة كان رافضاً للأمر في البدء، ففي نفس المصدر: (عن أبي نضرة: استأذن تميمُ الداري عمرَ بن الخطاب في القَصَص، فقال: الذبح) أي إذا قمت بذلك فعقابك الذبح (ثم أذن له بعدُ).
- وفي سير أعلام النبلاء أن الخليفة عمر قَبِل بذلك بعد أن بيّن له تميم أنه سيقوم بهذا الأمر بطريقة مختلفة عن تلك المعهودة، إذ ستكون قصصه في إطار القرآن والموعظة: (عن حميد بن عبدالرحمن: أن تميماً استأذن عمر في القَصص سنين، ويأبى عليه، فلما أكثر عليه، قال: ما تقول؟ قال: أقرأ عليهم القرآن، وآمرهم بالخير، وأنهاهم عن الشر. قال عمر: ذاك الربح. ثم قال: عِظ قبل أن أخرج للجمعة. فلما كان عثمان استزاده) أي طلب يوماً إضافياً (فزاده يوماً).
- وكانت هذه هي الثغرة التي نفذ منها القصاصون، ثم فلتت الأمور بعد ذلك، وأخذ القصّاصون
يخوضون في كل شئ، ويستغلّون القضايا الدينية – ولا سيما التظاهر بالموعظة - لكسب المال
أو الشهرة، أو لإدخال الإسرائيليات أو المسيحيات أو معتقدات الأمم الأخرى في المعارف الإسلامية... وكان اختلاق القصص أو الزيادة فيها وسيلتهم للنجاح.
- ومن هنا نجد أن علياً (ع) اتخذ إجراءات حازمة ضدَّهم في الكوفة، وفيما يلي بعضاً منها:
1. التحذير منهم. في موسوعة كنز العمال للمتقي الهندي، ومصادر أخرى: (عن الحارث عن علي أنه دخل المسجد فإذا بصوت قاص، فلما رآه سكت، قال علي: من هذا؟ قال القاص: أنا. فقال علي: أما أني سمعت رسول الله (ص) يقول: سيكون بعدي قُصّاص لا ينظر الله إليهم).
2. كشْف حقيقة دوافعهم وعدم نزاهتها وجهلهم وعدم امتلاكهم المؤهلات للموعظة وتقديم المعارف الدينية. ففي المواعظ للعسكري (عن أبي البحتري قال: دخل علي بن أبي طالب المسجد فإذا رجل يُخوّف) أي يعظ الناس من خلال القصص بدليل رواية أخرى تذكر أنه كان يقصّ (فقال: ما هذا؟ فقالوا: رجل يذكِّر الناس، فقال: ليس برجل يذكّر الناس، ولكنه يقول: أنا فلان ابن فلان، اعرفوني) أي أنه طالب شهرة لا موعظة (فأرسل إليه فقال: أتعرف الناسخ من المنسوخ؟ فقال: لا. قال: فاخرج من مسجدنا ولا تذكر فيه).
3. معاقبتهم بعد إصرارهم على أن يقصّوا: ففي الكافي عن هشام بن سالم عن أبي عبدالله (ع) قال: (إن أمير المؤمنين (ع) رأى قاصاً في المسجد، فضربه بالدرّة وطرده).
4. التهديد بمعاقبة من يقومون بإعادة نشر أكاذيبهم، ففي تفسير الجلالين للسيوطي أن علياً (ع) قال: (مَن حدّثكم بحديثِ داود على ما يرويه القُصّاص) حيث اتهموا داود (ع) بأنه أعجب بزوجة أحد القادة العسكريين، فأرسله إلى موقع متقدم في الحرب، فقُتِل، ثم تزوج أرملته، وهي القصة المروية في العهد القديم (جلدتُه مائة وستين جلدة، وهو حدُّ الفِرية على الأنبياء).
- وهكذا سار الأئمة من بعد علي (ع) في مواجهة القصاصين، كما هو المروي عن الإمام الحسن والسجاد والصادق (ع)، وهو ما يؤكّد خطورة هذه الظاهرة التي أفرزت عدة سلبيات على مستوى تأويل القرآن الكريم والمعارف الدينية وسيرة النبي وتاريخ الأنبياء، بالإضافة إلى تشويه صورة الوعظ والواعظين عندما اقتحم القُصّاص عالمَ الوعظ فخلطوا الحقَّ بالباطل، والحقيقة بالوهم، في نفس الوقت الذي انغمس فيه بعضهم في الملذّات وتنافسوا على المال والشهرة إلى حدٍّ فاضح كما ذكر التاريخ، وهو ما سنتحدث عنه بإذن الله في خطبة لاحقة.