يوسف (ع) بين التلفزيون والواقع الموضوعي - مقال للسيد جعفر فضل الله

ممّا لا شكّ فيه أنّ المسلسل الديني الذي يتناول قصّة نبيّ الله يوسف عليه السلام، الذي عرضته أكثر من محطّة تلفزيونيّة، والذي أُنتج في إيران، مثّل قطعة فنّية مميّزة، عكس إلى حدّ كبير الاهتمام بعناصر الإبداع الفنّي ومحاولة تجسيد كبير لكثير من القيم التي تشتمل عليها عادةً قصص الأنبياء، ولا سيّما في القيم الأخلاقيّة التي تميّزوا في حركتهم بين الناس في مفردات الحياة اليوميّة، إضافةً إلى عناصر التميّز في طبيعة الأدوار التي اضطلع بها الأنبياء، كلّ في عصره ومرحلته ووسائله.

وهذا التأثير الإيجابي إن دلّ على شيء، فعلى أهمّية أن يرتقي الفنّ الإسلامي إلى حالة الإبداع الذي يخرج من أسلوب تقديم الفكرة المباشرة، عبر الوعظ والإرشاد التقليدي الذي له موقعه ومجاله، إلى تقديم الوقائع بصورتها الجاذبة والمؤثّرة، بحيث تعمّق الإحساس بحضور هذه الشخصيّات في الوجدان من جهة، وتشكّل حركة في خطّ الدعوة إلى القيم الدينيّة التي كثيراً ما يفتقد إليها الواقع اليوم، فضلاً عن الأعمال الفنّية التي شطحت إلى ما هو ضدّ القيم وضدّ الأخلاق.. إلا أنّ ذلك يضع أمام حركة الإنتاج الفنّي للشخصيّات ذات الرمزيّة الدينية العليا، كالأنبياء، تحدّياً كبيراً، في أكثر من مستوى:

-1 وثاقة الوقائع التاريخيّة؛ وهذا يتطلّب التدقيق العميق في نوعيّة المصادر التي يتمّ الاعتماد عليها، وكذلك في المنهج الذي يتمّ بواسطته اختبار هذه الوثاقة عند تعارض النقل التاريخي أو محاكمة المضمون الوارد فيها؛ علماً أن المنهج لا يقلّ أهمّية عن المصادر، ولا سيّما عندما تعترضنا مشكلة ما سمّي بـ «الإسرائيليّات» في المرويّات، ممّا قد يسيء أحياناً إلى الشخصيّة الإيمانيّة العاديّة للأنبياء، فضلاً عن قدسيّتهم النبويّة. ولا شكّ أن طبيعة تأليف السيناريو لمسلسل النبيّ يوسف عليه السلام أوقعت المؤلّف في بعض المطبّات التي جعلته يُحاول أن يجمع بين الروايات المنقولة بما قد يصطدم أحياناً بظاهر القرآن فيما عرضه من قصّة نبيّ الله يوسف.

-2 التأثّر بمدارس فكريّة، كما في المدرسة العرفانيّة التي ألقت بظلالها على السيناريو المُنتج للقصّة، بحيث بُني على مراودة امرأة العزيز ليوسف عن نفسه لدفعه نحو الفاحشة، لتحويل القصّة إلى قضيّة عشق عرفانيّ، أوصل الكاتب ـ من حيث يشعر أو لا يشعر ـ إلى أن يتجمّل خطأ زليخا حتّى كاد أن يكون يوسف عليه السلام هو المذنب في تنكّره لامرأة العزيز في عشقها المستجدّ.

-3 تشويه شخصيّة النبيّ عن طريق الضعف في عكس المشاعر البشريّة التي تنبع من بشريّة الأنبياء وإنسانيّتهم تجاه قضايا ضمن مسار القوّة الذي تمثّله الشخصيّة الإيمانيّة للنبيّ، بحيث لا يشعر المشاهد أنّه أمام موقف جزع أو فقدان توازن يدعو الأنبياء الناس إلى تجنّب أمثاله، وهو ما بدا واضحاً لدى كثير من المتابعين للطريقة التي عكست بها شخصيّة النبيّ يعقوب عليه السلام، مع أنّه ظهر في مشهد القوي في بعض الإشارات القرآنية: { أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ}، أو ب{ َلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ}؛ وما إلى ذلك.

على كلّ حال، فحركة النقد الفنّي ربّما تكون جديدةً على ساحتنا الإسلاميّة، ولذلك فالمطلوب أن يُفتح الباب فيه على مصراعيه؛ لأنّ ذلك هو مسار التطوّر في خطّ الجودة في المستقبل، بناءً على المرحلة المهمّة التي وصل إليها الإنتاج الفنّي في الحاضر؛ والله من وراء القصد.





تاريخ النشر 31/10/2009