عملية تجميل ـ مقال للشيخ علي حسن غلوم


الشيخ علي حسن { وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (المائدة:27-30)

بهذه الصورة الفظيعة والمأساوية قدّم القرآن نموذج أول حالة حسد في تاريخ البشرية.. فكانت مصداقاً لتخوّف الملائكة { وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} (البقرة:30)، فقد تكون هناك بعض المفاسد في ما قدّره الله في ما يتصل بالوجود، كما في الزلازل والبراكين، ولكن المصالح الكامنة فيها، والحاصلة منها، أكثر أهمية، وأقوى تأثيراً، لأن النظام الكوني لا تجد فيه خيراً إلاَّ ومعه شر، كما لا تجد فيه شراً إلاَّ وهناك خير في داخله، لتكون المعادلة غلبة هذا الجانب على ذاك في مسألة أفضلية الوجود على العدم، أو أفضلية العدم على الوجود.



هل هو إحساس طبيعي؟

وهكذا وجد الحسد مع وجود الإنسان الأول، وكان قتْل النفس (الرحمية) المحرمة أول ثمراته، حتى اعتبر المؤرخ الفرنسي (فوستيل دولا كولونج) أن (الإحساس الأكثر طبيعية، الذي يُفترض أن يشعر به الإنسان، وهو يقف متفرجاً على ثراء غيره، ليس الإحساس بالاحترام ولكن الإحساس بالحسد!!). ونحن وإن كنا لا نوافقه على ذلك، (لأن طبيعية الشئ تعني توافقه مع الفطرة الإنسانية، ومما نعتقده أن الله يخلق الإنسان على فطرة سليمة، والعوامل التربوية والبيئية ومتغيرات الحياة هي التي تغيّر في هذه الفطرة) إلا أن هذا هو التقدير الطبيعي لحال الإنسان حين يتخلى عن التقوى ويغيب عقله وضميره.



سوء فهم:

ويعود الحسد في كثير من حالاته إلى سوء فهم لطبيعة الفروقات بين الناس والتي عبّرت عنها الآية {هُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ}(الزخرف:32) أي لتتوزع المهام والوظائف بين الناس لتتكامل صورة الحياة من خلال ذلك. كما يعود الحسد إلى سوء تقدير حال الآخرين بإغفال الصعوبات التي يواجهونها والتركيز على جانب التنعّم، ونسيان ما نتقاسمه جميعنا في هذه الحياة من مشتركات، وأنها في نهاية المطاف حياة عابرة لا تعدو أن تكون مجازاً لحياة آخرى.

إن الذي يعيش الحسد بصورة متكررة بحاجة إلى تعزيز الثقة بالله سبحانه وتقديره للأمور (حسن الظن بالله)، بالإضافة إلى تقوية الثقة بالنفس، والتركيز على نقاط القوة التي يمتلكها، والنعم الكثيرة التي يرفل فيها، وأن يعكس اتجاه اهتمامه وحبه لذاته، فبدلاً من أن ينصب على تمني زوال النعم من الآخرين، فلينصب باتجاه الرأفة بنفسه بترسيخ حالة الطمأنينة والراحة النفسية، لأنه لا راحة لحسود، حتى قال أمير المؤمنين عليه السلام: (ما رأيت ظالماً أشبه بمظلوم من الحسود، نفس دائم وهمّ لازم وقلب هائم).



بئر أم وادي؟

قدم المحلل النفسي (سافيريو توماسيلا) صورة بديعة للحالة النفسية للحسود، قال: (الأمر هنا يتعلق بإدمان التملك. إنه مثل بئر بلا قعر، يتمنى صاحبها لو يضع فيها كل شيء وأي شيء تقع عليه عينه، لكنه مهما وضع فيها لا تمتلئ أبداً، حتى يصل إلى درجة أن يفقد كل شيء معناه، وحيث لا يبقى مكان للجوانب الروحية). وقريب منه تعبير النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم حيث قال: (لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى وادياً ثالثاً، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب).



وجه قبيح:

إذاً مرة أخرى يطل علينا الوجه القبيح لتطرف (الأنا)، ليكون هو السبب وراء شقاء الإنسان.. ومعطيات شهر رمضان المعنوية بإمكانها أن تعالج موطن الخلل هذا، وأن تطفئ النار المتقدة قبل أن تحرق صاحبها تماماً، وذلك حين يعيش الإحساس بآلام الآخرين وينعم في رحاب العطاء للمحرومين في حالة من الإيثار تجمّل شيئاً من ذلك الوجه القبيح.







تاريخ النشر 19/09/2009 الوطن الكويتية