حديث الجمعة: قلوب كبيرة - الشيخ علي حسن

(اَللّـهُمَّ وَهذِهِ اَيّامُ شَهْرِ رَمَضانَ قَدِ انْقَضَتْ، وَلَياليهِ قَدْ تَصَرَّمَتْ، وَقَدْ صِرْنا يا اِلـهي مِنْهُ اِلى ما اَنْتَ اَعْلَمُ بِهِ مِنّا وَاَحْصى لِعَدَدِهِ مِنَ الْخَلْقِ اَجْمَعينَ، فَنسْأَلُكَ بِما سَأَلكَ بِهِ مَلائِكَتُكَ الْمُقَرَّبُونَ وَاَنْبِياؤُكَ الْمُرْسَلُونَ، وَعِبادُكَ الصّالِحُونَ، اَنْ تُصَلِّيَ عَلى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ وَأنَ تَفُكَّ رَقَابنا مِنَ النّارِ، وَتُدْخِلَنِا الْجَنَّةَ بِرَحْمَتِكَ، وَاَنْ تَتَفَضَّلَ عَلينا بِعَفْوِكَ وَكَرَمُكَ، وتَتَقبَّل تَقَربنا وَتَسْتَجيْبَ دُعاءنا، وتَمُنَّ عَلينا بالاَمن يوم الخوف مِنْ كُلِّ هَوْلٍ اَعْدَدْتَهُ لِيَومِ الْقِيامَةِ).
عيد الفطر على الأبواب، وهذا العام كان شهر رمضان – وبسبب الجائحة - مختلفاً تماماً عما اعتدنا عليه في السنوات الماضية، ومن الواضح أن من أهم الفروقات ما تمثّل في حالة العزل التام أو شبه التام التي عاشتها الأكثرية منا، وفقدنا به بُعداً بارزاً من الأبعاد المميِّزة للنشاط الاجتماعي، والتواصل، وتهادي الطعام، وأمثال ذلك.
ولعل بعضنا نجح في أن يوظّف هذه الظروف الاستثنائية لزيادة الجرعة العبادية والمعرفية من خلال مشاهدة المحاضرات والبرامج الدينية، ومن المفترض من خلال ذلك أن يرتفع منسوب المشاعر الإنسانية والسلوك الأخلاقي الإيجابي لدى الفرد.
يُروى عن الإمام زين العابدين (ع) أنه كان إذا دخل شهر رمضان وارتكب مَن كان تحت يده من العبيد والإماء أموراً ومخالفات يستحقّون معها المعاقبة، كان يدوّنها عليهم، حتى إذا كان آخر ليلة من شهر رمضان دعاهم وجمعهم حوله ثم أظهر الكتاب ثم قال: يا فلان فعلت كذا وكذا، ولم أؤدبك أتذكر ذلك؟ فيقول: بلى يا ابن رسول الله، حتى يأتي على آخرهم، ويقرّرهم جميعاً، ثم يقوم وسطهم ويقول لهم: ارفعوا أصواتكم، وقولوا: يا علي بن الحسين إن ربك قد أحصى عليك كل ما عملت، كما أحصيت علينا كل ما عملنا، ولديه كتابٌ ينطق عليك بالحق، لا يغادر صغيرة ولا كبيرة مما أتيت إلا أحصاها، وتجد كل ما عملت لديه حاضراً، كما وجدنا كل ما عملنا لديك حاضرا، فاعف واصفح، كما ترجو من المليك العفو، وكما تحب أن يعفو المليك عنك، فاعف عنا، تجده عفوا، وبك رحيما، ولك غفورا، ولا يظلم ربك أحدا).... ليتحوّل هذا المشهد إلى مشهد مفعم بالمشاعر الإنسانية والروحية حيث يذرف فيها الإمام الدموع ويسأل الله العفو والرحمة، ثم ينتقل بالخطاب إلى أولئك العبيد والإماء قائلاً: (قد عفوت عنكم، فهل عفوتم عني ومما كان مني إليكم من سوء ملكة؟).
قد نمرّ على هذه الكلمات على عجل ولا نشعر بحجم مدلولها، لأن البشرية بحمد الله تخلصت إلى درجة كبيرة من هذا النوع من الاستعباد، ولم نعش تجربتها، ولكن لو وضعنا هذا الموقف في سياقه الطبيعي آنذاك لأدركنا كم قد تنازل الإمام زين العابدين (ع) عن خصوصية العنوان الذي يمثّله كسيد أمام مَن هم أرقّاء عنده! فضلاً عن كونه إماماً وسيداً من سادات بني هاشم.
وينتظر الإمام منهم بعد ذلك الرد بالعفو، ويلقنهم كلمات الدعاء بالعفو ثم يختم المشهد بقوله: (اذهبوا، فقد عفوت عنكم، وأعتقت رقابَكم، رجاءً للعفو عني، وعتق رقبتي) ثم يعتقهم، وقد يتجاوز عددهم العشرين فرداً في كل عام، فإذا كان يوم الفطر، يعني بعد سويعات من هذا المشهد، أجازهم بجوائز تصونهم وتغنيهم عما في أيدي الناس.
وكان الإمام إذا تملكهم في أول السنة أو في وسطها أعتقهم ليلة الفطر، واستبدل سواهم في الحول الثاني، ثم يعتق الدفعة الثانية منهم، وهكذا.
ويضيف الراوي أن الإمام كان يشتري بعضهم وما به إليهم من حاجة، حتى إذا حج بيت الله الحرام وأفاض من عرفات، أمر بعتق رقابهم وأجازهم بجوائز من المال تكون بمثابة رؤوس أموال لبناء حياة كريمة.
هذه هي النتيجة الطبيعية المتوخاة من الصيام ومن البرنامج الروحي المكثّف الذي يعيشه المؤمنون خلال شهر رمضان، وأما صور العدوان قولاً وفعلاً، وتأجيج الأحقاد، وزرع الكراهية تجاه بعض القوميات أو بلحاظ عناوين معيّنة كالوطنية مثلاً، فهذا أمر بعيد تماماً عن النتيجة المرجوة في قوله تعالى (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)، والتي لا تنحصر في بُعد العلاقة مع الله سبحانه، بل وتمتد في البُعد الاجتماعي من خلال سلوكياتنا ونوايانا ومشاعرنا تجاه الآخرين.
ونتمنى أن تتوقف حالات الشحن والمواقف والمواقف المضادة التي شهدناها بصورة مكثفة خلال الأسابيع الماضية، وتنطلق الأصوات الخيرة التي تدعو لنبذ الشحناء وتهدأة الأجواء.
ولنتذكر أن من يشاركوننا الأوطان، وإن كانوا من الوافدين إليها، فإنهم يمثّلون رافداً من روافد تحقيق التنمية فيها، وأنهم بشر مثلُنا، يقعون اليوم تحت ضغوطات الحياة والأوضاع الاستثنائية وبدرجات أكبر منا بكثير، ولربما ما يواجهونه من صعوبات مالية عنيفة بسبب الحظر المفروض، وغموض مستقبلهم الوظيفي أو المهني، وأمثال ذلك يدفع ببعضهم أحياناً إلى فقدان التوازن في الموقف، فلا يجب أن يتحوّل هذا ذريعة لخلق العداوات وتأصيل الكراهية، ولتكن قلوبُنا كبيرة كقلب الإمام زين العابدين (ع)، فالمياه المجموعة في الآنية سرعان ما تتغيّر بما يقع فيها من كدورات، وأما البحار والأنهار وإن تغيّرت في لحظة، فإنها سرعان ما تعود صافيةً رقراقة مهما ألقيت فيها من كدورات.
ومن يتمنى أن تكون الجنةُ مأواه فعليه أن يسعى لأن يهيئ أجواء السلام والطمأنينة والأمن فيما حولَه، وهذا لا يتحقق إلا بأن يخلق روحية السلام والطمأنينة في نفسه، لأن الجنةَ دارُ السلام (وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) [يونس:25]، (جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاؤُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ، الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) [النحل:31-32]. (اَللّـهُمَّ أدِّ عَنّا حَقَّ ما مَضى مِنْ شَهْرِ رَمَضانَ، وَاغْفِرْ لَنا تَقْصيرَنا فيهِ، وَتَسَلَّمْهُ مِنّا مَقْبُولاً وَلا تُؤاخِذْنا بِإسْرافِنا عَلى أَنْفُسِنا، وَاجْعَلْنا مِنَ الْمَرْحُومينَ وَلا تَجْعَلْنا مِنَ الْمحْرُومينَ) وكل عام وأنتم بخير.