حديث الجمعة: كيس من الإسمنت - الشيخ علي حسن

- الإجابة على السؤال كي تكون مؤثّرة وفي الصميم تتحوّل – أحياناً - إلى فن من الفنون، لا يمتلك مفاتحَه كلُّ أحد، ولا يقدر على ذلك إلا صاحب حكمة وعقل راجح وحُسن بيان.
- الموقف التالي الذي يدور بين ثري من الأثرياء من جهة، وبين الإمام الحسن بن علي المجتبى (ع) من جهة أخرى يمثّل نموذجاً على ما ذكرت.
- روى المؤرخ والجغرافي اليعقوبي، وهو أبو العباس أحمد بن إسحاق اليعقوبي (ت284هـ) الذي ينتمي لطبقة الكتّاب، وعندما نقول (فلان كاتب) يعني مسئول إداري وأمين سر في الدولة، وكان منصباً مهماً وحساساً، ويجب أن يكون صاحبه مثقفاً جداً، وأديباً وصاحب خط جميل بالإضافة إلى مهارات أخرى، وقد قامت شهرة اليعقوبي على أثرين من آثاره، هما: كتاب تاريخ ابن واضح، نسبة إلى أحد أجداده، والمعروف بتاريخ اليعقوبي؛ وفيه تحدث عن تاريخ الشعوب ما قبل الإسلام وتاريخ الإسلام حتى سنة 258هـ أي (872 م)، وكتابه الآخر (البلدان)؛ وتحدث فيه عن كبريات المدن في بلاد الإسلام. ولد في بغداد وقضى بعض حياته في أرمينيا وخراسان ثم هاجر إلى الهند والمغرب ومصر التي توفي فيها.
- اليعقوبي في تاريخه روى أن رجلاً من الأثرياء جاء إلى الإمام الحسن (ع) فقال له: (يا ابن رسول الله، إني أخاف من الموت!) هذا السؤال يتكرر في بعض المرويات وكتب الأخلاق، ولربما اليوم الإنسان يخجل أن يذهب إلى عالِمٍ يثق به فيقول له: (إني أخاف الموت)، لأن الإجابة صارت نوعاً من تثبيت ارتباط ذلك بكثرة المعاصي التي ارتكبها السائل، أو أن حبه للدنيا أكثر وأشد من حبه للآخرة، وأمثال ذلك، ولربما لأن الصراحة صارت مزعجة في يومنا هذا، والناس يميلون إلى المجمالة والمداهنة، بينما الشفافية والوضوح والصراحة أمر طبيعي في عُرفِ الإسلام وتوجيهاتِه، ويُشكر عليه الإنسان! وكما هو المروي عن النبي (ص): (المُؤمِنُ مِرآةٌ لِأَخيهِ المُؤمِنِ) وعن علي (ع): (صديقُك من صدَقَك لا من صدَّقك)، فما قيمة المرآة إن لم تعكس الصورة واضحة؟ وما قيمة الصداقة إن لم تُسهم في صلاح حال الإنسان؟ هكذا ربّى الإسلامُ الناسَ على الصراحة، وهكذا نربّي الأجيال على التزلّف، وعلى اعتبار أن الناقد الصادق حسود أو مبغض!
- على العموم، نعود إلى ذلك الرجل الثري الذي ذهب إلى الإمام الحسن المجتبى (ع) وسأله عن سبب خوفه من الموت، فماذا كانت إجابة الإمام؟ قال له: (ذاك لأنك أخّرت مالَك. ولو قدَّمتَه لسرَّك أنْ تَلحقَ به). ما أروع هذه الإجابة، وما أدق دلالتها!
- (ذاك لأنك أخّرتَ مالَك)... أنت رجلٌ قد أنعم الله عليك بالمال، وقد تعلّق قلبُكَ بهذا المال، وحيث أنك تعلم أنّ الموت حق، وأنْ لا مهرب منه، هذا من جهة... ومن جهة أخرى حيث أنّ حبّك للمال قد جعلك تحتفظ به حرصاً وبُخلاً ولعدم الثقة بالوعود الإلهية بالتعويض فيما لو أنفقت منه في سبيله، وهو القائل: (قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) [سبأ:39]، واستسلمت لوسوسة الشيطان وقد وصف الله تعالى طبيعة هذه الوسوسة للأثرياء: (الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) [البقرة:268]... لذا فإنك تعلم أنك ستغادر إلى عالم آخر، مخلِّفاً محبوبَك وراء ظهرِك، وستكونَ أنتَ في عالَم، وهو في عالَم آخر، وسيوقفُك مَن لا تخفى عليه خافية، وسيضعك أمامَ كتابٍ لا يُغادر صغيرةً ولا كبيرةً إلا أحصاها... وقد روي عن النبي (ص) قولَه: (لا تزولُ قَدَمَا عبدٍ يومَ القيامةِ حتَّى يُسألَ عن أربعٍ: عَن عُمُرِه فيما أفناهُ، وعن جسدِهِ فيما أبلاهُ، وعن عِلمِهِ ماذا عَمِلَ فيهِ، وعن مالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وفيما أنفقَهُ)... فهل تتوقع شعوراً آخر تجاه الموت سوى هذا النوع من الخوف من سوء المصير؟
- في نهج البلاغة: (عَجِبْتُ لِلْبَخِيلِ يَسْتَعْجِلُ الْفَقْرَ الَّذِي مِنْهُ هَرَبَ، وَيَفُوتُهُ الْغِنَى الَّذِى إِيَّاهُ طَلَبَ) لأنه لا يتمتع بأمواله (فَيَعِيشُ فِي الدُّنْيَا عَيْشَ الْفُقَرَاءِ، وَيُحَاسَبُ فِي الْآخِرَةِ حِسَابَ الْأَغْنِيَاءِ).
- وفيه أيضاً في وصف الإنسان الذي أيقن الموت وهو يعيش لحظات وداع هذه الدنيا: (يفكّر فيمَ أفنى عمره، وفيم أذهبَ دهْرَه. ويتذكر أموالاً جمعها، أغمض في مطالبها) أي تغاضى عن مصدرها، أمن حرام أم حلال، لم يكن يهتم (وأخذها من مصرَّحاتها ومشتبهاتها. قد لزمتْه تَبعاتُ جمعها، وأشرف على فراقِها، تبقى لمن وراءه ينعمون فيها ويتمتّعون بها. فيكون المهنأُ لغيره، والعبءُ على ظهره).
- ثم قال الحسن (ع) للرجل: (ولو قدَّمتَه) وهذا تعبير مجازي رائع يتضمن معنيين في آن واحد، أي لو قدّمت هذا المال في سبيل الله، والمعنى الآخر: لو قدّمته بحيث يسبقك إلى دار الآخرة من خلال العطاء في الدنيا (لسرَّك أنْ تَلحقَ به) حينئذ ستجد هذا المال الذي أنفقته في دنياه مستقراً قبلَك في النشأة الآخرة، في هيئة ثواب عظيم وعطايا إلهية تقرّ بها عينُك، وتتمتّع به أضعاف ما كان يمكنك أن تتمتّع به في دنياك، والحال أن التلذذ في الدنيا لا يفارق الآلام والخوف والهموم والمشاكل والنزاعات والمرض والصداع والضغط وغير ذلك.
- أخبرني أحد الأصدقاء أن ثرياً دخل عمارةً له في أثناء تشييدها، وكان وقت الظهيرة، وفي عزّ الحر، فوجد عاملاً بسيطاً وقد وضع رأسَه على كيس إسمنت وهو يغطّ في نوم عميق... يقول هذا الرجل الثري: تمنّيت في تلك اللحظة لو كنت مكانه فأنال مثل هذه النومة العميقة، لأنني وإن كنت أضع رأسي على مخدةٍ ناعمة وفراش وثير وفي غرفة مكيّفة، إلا أنه مع كثرة التفكير في المعاملات التجارية والحرص على أموالي وتجارتي ما عدتُ أعرف طعمَ النوم!
(ذاك لأنك أخّرت مالَك. ولو قدَّمتَه لسرَّك أنْ تَلحقَ به)... فماذا تختار؟ وإلى لقاء آخر والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.