حديث الجمعة 17 شعبان1441: الشيخ علي حسن : المتدينون ما بعد كورونا

- يتحدث العالم اليوم عن مرحلة ما بعد كورونا... السياسيون يقولون أن العالم السياسي ما بعد كورونا لن يكون كما قبله.. مراكز القوى والتحالفات والسياسات ستتغيّر حتماً.
- وأهل الاقتصاد يقولون أن الاقتصاد العالمي والمحلي ما بعد كورونا لن يكون كما قبله.. الاقتصاد العالمي في ظل ما كشفته الأزمة الصحية اليوم معيب، ولذا فلابد من تعديله، أو البحث عن بديل.
- وهناك حديث أيضاً عن أن العلاقات الاجتماعية ما بعد كورونا ستتأثر.. التلاقي والتصافح والترحيب والتجمع وغير ذلك من عناوين ستتأثر بصورة أو بأخرى في عالم ما بعد الكورونا.
- وهكذا الأمر بالنسبة إلى نُظُم الرعاية الصحية والوقائية والعلاجية التي انكشف فيها الكثير من العيوب والنواقص ومواطن الضعف، وتأثير التمايز الاجتماعي والتعصبات والامتيازات ذات الطابع الوطني والعرقي والطبقي على أولويات تلقّي العلاج ووسائل الوقاية وأمثال ذلك.
- أي أن هذه الأزمة العالمية ستُلقي بظلالها الكبيرة جبراً على مناحي الحياة المختلفة، وأصحاب كل اختصاص باتوا يتحدثون صراحة – ونحن ما زلنا في بدايات هذه الأزمة – عن تأثيراتها، وعن ضرورة المصارحة والشفافية واتخاذ الخطوات اللازمة بما يتناسب مع مرحلة ما بعد كورونا.
- إلا المتديّنون.. لا نجد منهم أيَّ حديث عن علاقة الناس بالدين، وعلاقة الدين بهم، في مرحلة ما بعد كورونا.
- نعم، هناك من يتحدثون – في الوسط الإسلامي واليهودي والمسيحي – عن أن هذا الوباء قد أو سيكون ممهداً - أو علامة من علامات - ظهور السيد المسيح أو الإمام المهدي (ع)، وليس هذا مقصودي.....
- وعليهم أن يأتوا بالحجة القاطعة على ذلك، حتى لا يكون كلامهم من الظن الذي لا يغني من الحق شيئاً.
- ولكن ما أقصده هو أنّ على المتدينين أن يلاحظوا مواطن الخلل الفكري والسلوكي والأخلاقي التي برزت في الأوساط المتدينة - أو الملتزمة بدرجةٍ ما بالدين – وكشفت عنها أزمة كورونا.
- أعطيكم مثالاً واضحاً.. في الأوساط المتدينة اليهودية والمسيحية والإسلامية، ظهرت فئة تطالب – بل وتعمل – بقوة على ترسيخ فكرة أن هذا المجال لا مجال له أن يقتحم عالم الدين.
- لا مجال له أن يقتحم المسجد الحرام أو المقامات الدينية أو المساجد ويلوّثها... لا مجال أن يكون هذا الفيروس معدياً أو مميتاً ما دمت مرتبطاً إيمانياً بالدين الفلاني، أو بالمذهب الفلاني، أو لاجئاً إلى الشخصية المقدسة الفلانية وطالباً الشفاعة منها، وما أشبه ذلك من أقاويل.
- وانعكس هذا على سلوكيات ومقولات بعضهم كما شاهدنا.. فبعض متديني اليهود أصروا على كسر منع التجول والتلاقي في معابدهم بكثافة... وهكذا فعل أتباع بعض الكنائس المسيحية.
- وبعض المسلمين فعلوا ذات الشيء في المساجد، وطالبوا بعدم منعهم من صلاة الجماعة، واحتجوا على إغلاق المطاف حول الكعبة، وبعضهم لعق الأضرحة، وهناك من اقتحموا بعض المقامات الدينية بالقوة اتجاجاً على إغلاقها الوقائي.
- هذه المقولات والمظاهر والسلوكيات لم تأت من فراغ.. وإذا كان البعض قد صرّح بذلك أو أقدم عليه، فأنا على يقين بأن أضعاف هؤلاء بآلاف المرات لم يكونوا يملكون وضوح الرؤية في المسألة أو كانوا – وبعضهم ما زالوا - يؤيدونهم ولو على استحياء.
- هذه المقولات والسلوكيات لم تأت من فراغ، بل هي كاشفة عن خلل فكري متجذر في الأمة الإسلامية ومرتبط بفهم علاقة الدين بالحياة، وكيفية جريان النظام الكوني، وعن دور المعاجز والكرامات في حركة الوجود.
- قبل بضعة أشهر كانت لي خطبة جمعة تحت عنوان (سيد المتعقلين) تحدثت فيها عن النقلة النوعية التي حققها رسول الله (ص) لدى العربي الجاهلي البعيد عن العقلانية، ففتح له من خلال ذلك آفاقَ العلم والفِكر والحضارةِ المادية والمعنوية.
- والخطبة بعنوان (سيد المتعقلين) وأرجو من الأعزاء مراجعتها لأنها تمس واقعنا في ظل أزمة كورونا وبقوة.....
- في هذه الخطبة ذكرت أن البي بي سي - عربي عنونت مقالاً لها بالتالي: (كيف تقف المعتقدات البوذية عائقاً أمام مكافحة الملاريا؟)......
- جاء في هذا المقال: (ثمة تحديات تحول دون القضاء على الملاريا في [بوتان]، أبرزها كراهية البوذيين لقتل أي شكل من أشكال الحياة، حتى لو كانت بعوضة ناقلة للمرض... يقول [رينزين نامغاي] أول عالم حشرات في بوتان، إنه كان يُطمئن أصحاب المنازل بالقول: "إننا نرش المنازل فقط، فإذا أرادت البعوضة أن تنتحر بالدخول إلى المنزل، فلا تمنعوها". وأحياناً كان عمال رش المبيدات يقتحمون المنازل لرشها بمرافقة رجال الشرطة).
- وقلت في تلك الخطبة أن النبي (ص) حارب هذا النوع من تغييب العقل عند التعامل مع القضايا المتعلقة بمتغيّرات الطبيعة وعِلَلها.....
- وقد جاءه بعض الأعراب برؤية يغيب فيها العقل فقالوا: (يا رسول الله أنتداوى؟ فقال: نعم يا عباد الله، تَداوَوا، فإنّ الله عز وجل لم يَضَع داءً إلا وَضعَ لَه شِفاءً.....).
- وأنه دخل رسول الله(ص) على مريض يعودُه فقال: (أرسِلوا إلى الطبيب، فقال له قائل: وأنت تقول ذلك يا رسول الله؟)......
- وكأنّ ارتباطَ النبي بالغيب، ومقامَه الرفيع عند الله، وإيمانَه بالقضاء والقدر، واستجابةَ دعائه، كلُّ ذلك يستدعي منه عدم اللجوء إلى معالجة الأسباب الطبيعية، بل اللجوء إلى الرُّقية مثلاً، أو الاكتفاء بالدعاء، فجاء الجواب صادماً: (قال: نعم).
- وقد نجح الخطاب الديني – وبكل اقتدار - على مدى السنوات الماضية بتحقيق حركةِ رِدَّةٍ حضارية تدفع نحو العودة إلى تغييب العقل من جديد، وبثوب إسلامي وشرعي.....
- حتى أننا نجد على إحدى مواقع الاستفتاء من يسأل عن مشروعية التداوي؛ بذريعة أن بعض أهل العلم قال ما محصلته: (أنه لا يجب التداوي من مرض ولو ظن نفعُه، وتركُه أفضل... لأنه أقرب للتوكل.....)!
- وقد صارت بعض أطروحات المتدينين أضحوكة بيد الملاحدة، وسبباً للطعن في الدين وتوهينه.
- هذه مجرد مفردة من المفردات التي تستدعي أن نقول أن عالم التديّن ما بعد كورونا يجب أن لا يغدو كما كان عليه قبل ذلك.. لا بمعنى أن الدين يتغيّر.. بل بمعنى أن نعيد قراءة الدين من جديد، فخبرات الحياة وتراكم المعطيات العلمية من شأنه أن يفتح آفاقاً كانت غائبة عن كثيرين.