خطبة الجمعة 20 جمادى الآخرة 1441: الشيخ علي حسن : الخطبة الثانية: يوحنا الدمشقي وفخ الشياطين

- للفيض الكاشاني – الذي كان من فقهاء القرن الحادي عشر الهجري – كتاب يحمل عنوان (الأصول الأصيلة)، ذكر فيه مجموعة من الأصول والقواعد التي ينبغي للفقهاء الالتفات إليها عند قيامهم بعملية البحث والاستنباط.
- الأصل العاشر والأخير الذي ذكره في هذا الكتاب تضمّن مسألة مهمة جداً، وهي لا تخصّ الفقهاء وحدَهم، بل عموم الملتزمين بالدين، وتتمثّل في مسألة الخوض في تفاصيل وتفريعات مصطنعة للمسائل الدينية، ومن ثَم تحويلها إلى مادة للتخاصم والتنازع والتفرّق.
- فكرياً وتشريعياً وأخلاقياً، الإسلام يدفع باتجاه وحدة الصف وتحقيق القوة والتماسك المجتمعي..
وبالتالي فإنّ أيّ أمر يمكن أنْ يُخِلَّ بذلك سيكون مخالفاً لأصل مهم من أصول الدين وقواعده.
- (وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ
فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا) [آل عمران:103]. (وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ) [الأنفال:46].
- انطلاقاً من هذه الحقيقة الدينية قال الفيض الكاشاني تحت عنوان الأصل العاشر: (يجب على كل مكلَّف طالبٍ للحق والنجاة أن يتحرّى الأهمَّ في الدين فالأهم، ويأخذَ بالأقرب من اليقين فالأقرب، ولا يترك ما يَعنيه إلى ما لا يَعنيه).
- فهناك قضايا تُطرَح بعنوان أنها مسائل فكرية أو شرعية أو تاريخية أو من الثقافة الدينية، وهي ليست ذات فائدة كبيرة، أو لربما عديمة الفائدة أصلاً، ولا تُثمِر إلا خلافاً ونزاعاً وشحناً للصدور.
- (يوحنا الدمشقي) - ابن (سرجون) مستشار يزيد بن معاوية - يُعد آخر آباء الكنيسة الشرقية، وهي الشخصيات المسيحية الكبيرة التي وضعت الخطوط العريضة لبُنية الكنيسة على مستوى
العقيدة والتنظيم، ويُعتبر في الثقافة المسيحية قديساً لجهوده في مواجهة الإسلام.
- يوحنا هذا طرح الإشكال التالي: (إذا كان القرآنُ غيرَ مخلوق، فهو أزلي، وبالمِثْل فإنّ النبي عيسى أزليٌّ لأنهُ كلمة الله، وإنْ كان مخلوقاً فهو منفصل عن قدسية الله مثل باقي المخلوقات).
- هذه الشبهة منه أثارت لاحقاً إشكالية في الوسط الإسلامي تحت عنوان (مسألة خلق القرآن) وأحدثت فتنة كبيرة على عهد الخليفة المأمون العباسي، ومفادها: هل القرآن مخلوق أم أزلي؟
- وتفرّعت عنها إشكالات أخرى، وانقسم المجتمع الإسلامي على نفسه، واضطُهِد وقُتل من الفقهاء والناس جمع لمخالفتهم الرأي الذي تبنّته الخلافة آنذاك حول هذه المسألة المصطنعة.
- وقد روى الصدوق في (التوحيد) بسند معتبر عن الإمام الهادي (ع) أنه كتب إلى بعض شيعته ببغداد: (نحن نرى أنّ الجدال في القرآن بدعةٌ اشترك فيها السائل والمجيب، فيتعاطى السائل ما ليس له، ويتكَّلفُ المجيبُ ما ليس عليه) أي ليس من تكليفهما ذلك (وليس الخالق إلا الله
عزّوجل، وما سواه مخلوق. والقرآن كلام الله، لا تجعل له اسماً مِن عندِك فتكون من الضالين).
- ما أهمية أن القرآن مخلوق أم أزلي؟ المهم هو أن تتمسك بالقرآن وأن يكون -بحق- مرجعيتك الدينية على المستوى الفكري والعملي، خُذ بما هو يقين، ودَع هذه الظنون التي لا تُحقّق لك شيئاً.
- عن الصادق (ع) أنه قال: (إياكم والخصومة في الدين، فإنها تُشغل القلبَ عن ذكر الله) غاية الدين أن يتعلّق قلبُك بالله، وأنتم بهذه الخصومات المصطنعة تصورتم أنكم تسيرون إلى الله، والواقع أنها أبعدتكم عنه، وشغلت تفكيركم عن الأمور البناءة فكرياً أو عبادياً أو أعمال الخير (وتورِث النفاق) إذ تتحول إلى قضية شخصية، ومحاولة للانتصار للذات، فيكون ظاهر الأمر لله وللدين، وواقعه خلاف ذلك (وتُكسب الضغائن، وتستجيز الكذب) لأنه إذا حضَرت الأنا سمحنا لأنفسنا بأن نفجُر في الخصومة، وأن نسخر من الخصم، ونحقّره، ونسيء الظن فيه، ونبهته، ونتقاتل معه، ونكذب عليه، ونكذب بشأنه.
- تحويل المسائل الدينية إلى مادة للخصومة – في عين تصوّر المتديّن أنها باب من أبواب العلم
ورضا الله - بابٌ من أوسع الأبواب التي ينفذ منها الشياطين من الجن والإنس، كالمستكبرين الساعين لتدمير أوضاع المؤمنين.
- ولذا قال الفيض بعد ذلك: (ولا يَدخل في اختلافات الناس ومخاصماتِهم والتعصّباتِ الباردة، فإنّها مذمومة جداً، ومُمرِضة للقلب، بل يأخذ أوّلاً بما اتَّفق عليه العقلاءُ قاطبةً) وذكر مسألة التوحيد والنبوة والمعاد، ثم قال: (ثم يأخذ بمقتضى ما اتّفقوا عليه جميعاً مِن أنّ مدار النجاة في تلك النشأة هو التقوى والأعمال الصالحة والأخلاق الحسنة). هذا هو الذي يجب التفكير فيه والاهتمام به وبذل الجهد فيه.
- إن مسألة الدخول في تفاصيلَ وتفريعاتٍ مصطنعةٍ للمسائلِ الدينية، ومِن ثَم تحويلُها إلى مادةٍ للتخاصمِ والتنازعِ والتفرّقِ، أمرٌ يتعارض مع أصل قرآني مهم جداً يتمثّل في المحافظة على وحدة الصف وتحقيق القوة والتماسك المجتمعي، مع العلم بأن الكثير من التفاصيل الفرعية ذات العلاقة بالدين على المستوى الفكري والشرعي والتاريخي قد لا تُحقق أية فائدة حقيقية، بل تمثّل باباً من الأبواب التي يلج من خلالها شياطين الجن والإنس ليُفسدوا بين المؤمنين ما وجدوا إلى ذلك سبيلاً. إن للدّين رسالةً عليا، وله أهدافٌ كبرى، ومن غير المنطقي أن تتخلى الأمة عن الأهداف، وتنشغل بالتفاصيل والجدليات والقضايا الجزئية، فتفقد بذلك دورَها المركزي وتخسَر موقعَها الذي أراده الله عز وجل لها في كونها الأمةَ الشاهدة على سائر الأمم، والمرجعيةَ الفكريةَ والأخلاقيةَ والتشريعيةَ لها، وقد قال تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا).