خطبة الجمعة 13 جمادى الآخرة 1441: الشيخ علي حسن : الخطبة الثانية: صناعة المهدوية

- واحدة من القضايا التي تُحقِّق من خلالها أجهزةُ المخابرات الدولية أغراضَها هو الدين، في متبنياته الفكرية، وفي مفاهيمه، وفي تشريعاته، وذلك بتوظيف بعضها من أجل تحقيق أهداف معينة تخدم أجنداتها القريبة أو بعيدة المدى. ومن العناوين الدينية التي تم توظيفها بشكل واضح ومكثّف قبل ما يقارب القرنين هو عنوان المهدوية.
- في القرن التاسع عشر الميلادي كانت بين إيران القاجارية وروسيا القيصرية حروب ونزاعات، وحيث كان البُعد الديني والمذهبي حاضراً بوضوح لدى الشعب الإيراني، لذا تم التخطيط لاستغلال هذا البُعد لتحقيق المصالح الاستعمارية... وكانت القضية المهدوية واحدة من هذه العناوين.
- ذكر أستاذ علم الاجتماع في جامعة شيراز الدكتور (سيد سعيد زاهداني) في كتابه (البهائية في إيران) أن موجات اليأس التي اجتاحت الإيرانيين آنذاك جراء هزيمتهم في الحرب مع روسيا، والفقر، والجهل الثقافي، كل ذلك شجّع الناس للتطلّع إلى مُنقذ البشرية الإمام المهدي (ع).
- في هذه الأجواء، وحيث قام بعض العلماء بالتركيز على القضية المهدوية وتقديم (أفكار جديدة) بشأنها، فقد انجذب لهم تيار واسع من المتحمّسين والباحثين عن الخلاص.
- وفي المقابل قام الروس بزراعة ضابط مخابرات في الحوزة بكربلاء واسمه (كينياز دالغوركي) حيث ادّعى الإسلام وعُرف باسم (عيسى اللنكراني) وتدرج في دراسته حتى صار آيةَ الله.
- في كتابه المسمى (مذكرات كينياز دالغوركي) شرح رجل المخابرات الروسي كيف بنى علاقته بطالب الحوزة (علي محمد رضا الشيرازي) الذي كان – بحسب دالغوركي - معتقداً بالعلوم الغريبة كالطلّسمات والجفر، ومنغمساً في الخلوات المُنهِكَة والرياضات الروحية الشاقّة المتعلّقة بتسخير قوى الطبيعة وما أشبه ذلك، فأقنعه – خلال جلسات تدخين الحشيش التي اعتادها معه - بأن يطرح نفسه للناس على أنه باب الإمام المهدي، ووكيله الخاص وممثله.
- وصرّح دالغوركي عن غايته: (وأنا كنت مصمّماً أن أُحدث في مذهب الشيعة اختلافاً). أي أن
يُحدث انشقاقاً بما يخدم المصالح الروسية، وأضاف: (قلت له: منّي النّقد والمال، ومنك ادّعاء المبشّرية والبابية، وقلت له: إنّك لا تعلم أنّ وراء هذا القول جيش منظم. فأرضيتُه بذلك).
- وهكذا، استطاعت روسيا آنذاك توظيف علي محمد الشيرازي لصالحها، فأعلن أنه باب الإمام المهدي، ثم تطوّر الأمر حتى ادّعى أنه الإمام المهدي نفسُه، ثم ادّعى النبوة وألّف كتابه «البيان» الذي نسخ فيه شريعة الإسلام، فأحدث بذلك انشقاقاً وفتنة دينية وسياسية وأمنية في إيران، أدّت إلى إعدامه، فظهر من بعده تلميذُه (حسين علي النوري) الذي أعلن ولادة البهائية.
- وقع بهاء الله في أحضان الروس، وتلقّى منهم دعماً وتمويلاً، إلا أنه بعد سقوط الحكومة القيصرية وانقطاع المساعدات الروسية عن البهائيين، تلقفتهم بريطانيا فتحوّلوا إلى أحضانها.
- وكما هو واضح فإن بساطةَ الناس، وحماستَهم الدينية، والانخداعَ بالعناوين البراقة، من العوامل التي تؤدي إلى نجاح هذه الأجهزة المخابراتية في تحقيق أهدافها.
- هذا مجرد مثال على كيفية توظيف المخابرات الدولية القضايا الدينية لتحقيق مصالحها... وما أدعياء اليمانية وجند السماء وأمثالهم من بعد سقوط النظام الصدامي إلا مثال آخر.
- كما أن تجربة داعش تعتبر واحدة منها، وتتذكرون كيف تم الترويج لهم على أنهم الممهدون للمهدي من خلال الروايات التي تتحدث عن شعار السواد وطول الشعر واتخاذ الكنى.
- مؤخراً تم عرض مسلسل تلفزيوني تحت عنوان (المسيح) Messiah وأثار ضجة في الأوساط الإسلامية والعربية وغيرها، وخلاصة فكرة المسلسل هي: (ماذا سيحدث لو ظهر المسيح على الأرض اليوم؟ هل سيوحّد الجماهير، أم يتسبب في فوضى عارمة في جميع أنحاء العالم ويفكك النظام الجيوسياسي العالمي؟)
- حيث يقدّم المسلسل رجلاً ذا قدرات خارقة يظهر فجأة في الشرق الأوسط ويدّعي أنه المسيح، ويُلاحَق من قبل المخابرات العالمية، ويُحدث انشقاقاً كبيراً بين الناس، بين مؤمن به ومُنكِر.
- هل هذا المسلسل وأمثاله إنتاج إعلامي ساذج يقصد منه الترفيه والتربّح المادي لا أكثر؟
- (دومينيك مُويْزي)، مفكر سياسي واستراتيجي فرنسي ذو شهرة عالمية، وأحد مؤسسي «المعهد الفرنسي للعلاقات الدولية» الذي تعتمده وزارة الخارجية الفرنسية كأحد مرجعياتها الفكرية، وأستاذ زائر في جامعة هارفارد الأميركية وعدد من الجامعات العالمية الأخرى. له عدة مؤلفات من بينها كتابه «جيوسياسة الانفعال» الذي تمّت ترجمته إلى 26 لغة.
- في عام 2016 صدر له كتاب بعنوان (جيوسياسة المسلسلات التلفزيونية) مع عنوان فرعي هو «انتصار الخوف» ويبحث في تأثير المسلسلات على التوجهات الجيوسياسية العالمية.
-الجيوسياسة Geopolotics تعني دراسة الملامح الجغرافية من قبيل مواقع المناطق والدول، وتأثير الطبوغرافيا والمناخ والهجرة وأحجام الدول وأشكالها والتركيبة السكانية وما شابه ذلك، لمعرفة مدى تأثيرها على سياسات الدول الخارجية، بغرض الاستفادة منها وفقاً لمصالحها.
- يقول في كتابه أن من المعلوم أن الغرض الأساس للمسلسلات التلفزيونية هو التسلية والترفيه، إلا أنه ومنذ أحدث 11 من سبتمبر 2001، تعدّى دورها ذلك، بحيث غدت في الكثير من الحالات نوعاً من المرجعيات الثقافية، بل والمرجعيات السياسية والجيوسياسية.
- فعن أي خوف يتحدث مؤلف الكتاب؟ يقول مويزي أن مسلسلات من قبيل «لعبة العروش» Game of Thrones و«بيت لعبة الورق»House of Cards و«أرض الوطن»Homeland وغيرها في الواقع غير بريئة الهدف، لأن واضعيها ركّزوا اهتمامهم على القلق المشوب بالخوف من تهديدات تُنبئ بـتقهقر الغرب وانحداره، وتعاظم ظاهرة الإرهاب، وتهديد المنظومة الديمقراطية الغربية. ومن خلال ذلك يتم توجيه المشاهدين بما يخدم أهدافاً جيوسياسية معينة.
- بعد هذا الاستعراض، وبعد التجربة المرّة والمؤلمة للحركات الإرهابية الأخيرة والأحداث الفتنوية التي أعقبت إسقاط النظام الصدامي في العراق التي ربطت نفسها - في الحالتين - بصورة أو أخرى بالقضية المهدوية، أ يحق لنا أن نتعامل بسذاجة وسطحية مع ما يطفو على السطح من حين إلى آخر من دعوات وادّعاءات من قبل البعض بوجود نوع من الارتباط بينهم وبين الإمام المهدي، أو قيامهم بالتمهيد له من خلال بعض الوسائل الغريبة وأمثال ذلك؟ إن الإيمان بالقضية المهدوية يجب أن لا يحوّلنا إلى أداة بيد بعض أجهزة المخابرات الدولية التي تصطنع الشخصيات والأحداث، أو تحاول أن تؤثّر على نفسيات وقناعات الأجيال الشابة من خلال الصناعة السينمائية الموّجهة.