خطبة الجمعة 22 ذوالحجة 1440: الشيخ علي حسن : الخطبة الثانية: هل الأمومة غريزة؟

- هل الأمومة أمر فطري غريزي، أم سلوك اجتماعي مكتسب، أم مجرد قرار تتخذه المرأة تماماً كقرارها بأن تمتلك ثوباً ما أو حقيبة؟
- قد يبدو هذا السؤال غريباً للوهلة الأولى، لأن الأمور البديهية لا تحتاج إلى سؤال.. تماماً كما لو سألت أحداً: هل يحتاج الإنسان إلى الماء؟
- فمن البديهي طوال التاريخ البشري أن الأمومة غريزة فطرية تحكمها الطبيعة البيولوجية والنفسية للأنثى، بل وتُعرّف المرأة من خلال أمور من بينها الأمومة.
- ولكن ضمن الحملة العالمية لترويج فكرة (الجندر) كقسيم في مقابل (الجنس)، بمعنى أن الإنسان يولد بجنس، ثم له الحق في اختيار الجنس الذي يريده أو عدم الانتماء لأي جنس، صار هذا الأمر البديهي محط سؤال وتشكيك.. بل رفض.. بل تطرف.. بحيث ادّعي أن (عرضَ المرأة أو الفتاة كأمّ في مختلف السياقات هو أمر ضار للغاية ويؤدي إلى تنميط شخصيّتها وحرمانها من حرية اختيار هويتها وكينونتها).
- الاتجاه الذي تقود إليه دعوات أصحاب هذا الاتجاه هو الدفع نحو مقولة أن الأمومة ليست غريزة فطرية، ولا حتى سلوك مكتسب، بل مجرد قرار تتخذه المرأة تبعاً لدافعٍ ما، والذي قد يكون ذاتياً ناشئاً عن رغبتها الخالصة، أو خارجياً متأثراً بالعوامل المحيطة بها في مجتمعها.
- وبالتالي فإن على المرأة أن لا تعرّف نفسها كأم، وإنما كوجود شخصي فردي تُثبت من خلاله هويّتها الخاصة وكينونتها المنفردة.
- وقالوا: ليكون السلوك غريزياً يجب أنْ يكون تلقائياً، ولا يمكن مقاومته أو مقاومة حدوثه، وأنْ ينشأ استجابةً لشئ ما في البيئة ولا يحتاج إلى تدريب.. وهذا لا ينطبق على الأمومة.
- من نماذج مقولات هذا الاتجاه:
- (سارة هردي) – متخصصة في الأنثروبولوجيا - تقول في كتابها (الأم والآخرون) بأنّ رعاية الطفل والعناية به لم تكن يوماً حكراً على المرأة، بل هي حصيلة تعاون مع الزوج والأقرباء، وهذا يعني أن قراءة التاريخ البشري لا يؤيد أن الأمومة مرتبطة بالأنثى.
- وعبّرت الكاتبة الفرنسية (سيمون دي بوفوار) عن تطرفها في هذا الأمر حيث قالت بأنّ المرأة (ستظل مستعبدة حتى يتم القضاء على خرافة الأسرة، وخرافة الأمومة، والغريزة الأبوية).
- النسوية المتطرّفة (شولاميث فايرستون) تذهب إلى أنّ المرأة لن تتحرر من النظام الأبوي حتى يتمّ تحريرها من عبودية الإنجاب، ما يعني تحرير خضوعها الجسديّ للولادة والأمومة.
- هذه الأفكار المتطرّفة يُعمَل على نشرها في الأوساط النسائية بعناوين مختلفة، ولا تقتصر على الشابات فقط، بل تُوجَّه إلى كافة الأعمار، بدعوى تحرير المرأة مما يقع عليها من ظلم واستغلال من قِبل الرجل والأسرة!
- والآن وبشكل مختصر، كيف يمكن تصوّر الموقف الإسلامي – فكرياً - من هذا الطرح؟
- أوّلاً، نحن نعتقد بأن الله خلق الإنسان ليَعمُر الأرض: (هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا) [هود:61].
- ولن يتحقق هذا الإعمار بقطع النسل، ولا بتخلي المرأة عن دورها الأمومي، بل يتحقق بالتزاوج، والإنجاب، وقيام المرأة بدور الأمومة، ورعاية العلاقات الرحمية، وبرعاية مقتضيات التقوى فيها: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:١].
- ثانياً، القراءة التاريخية تؤكد ارتباط فكرة الأمومة في المجتمعات القديمة بالمرأة، وليس كما ادّعت (هردي).. حتى بلغ الأمر أن تمّ ربط المرأة بالألوهية، بما يمثّله الحمل والإنجاب من رمزية الخَلْق والعطاء.. ومن هنا انتشرت الآلهة الأنثى بمسميات مختلفة.
- ثالثاً، لماذا تحدث التغيرات الجسدية والهرمونية والنفسية لدى الأنثى عند البلوغ بما يمكّنها من الحمل والولادة والرضاعة وغير ذلك من وظائف الأمومة؟
- هل هذا اختيار شخصي؟ أم سلوك اجتماعي مكتسب؟ أم فطرة إلهية؟
- بل إنه - وبصورة لا تحتاج إلى مزيد استدلال – يُلاحَظ وجود قدرات خاصة وذاتية لدى المرأة على رعاية الأطفال؟ هل هذا محض صدفة؟ أم سلوك مكتسب؟
- رابعاً، حين تُخيَّر المرأة بين أمومتها وبين أي شئ آخر، فإنها – فى حالة كونها سوية نفسياً – ستختار الأمومة بلا تردد.
- في الإصحاح ٣ من سِفر الملوك الأول من (العهد القديم) قصة لطيفة وذات دلالة عميقة حول الأمومة، وفيها أن امرأتين تنازعتا لدى النبي سليمان على طفلين رضيعين، مات أحدهما: (فَقَالَ الْمَلِكُ: «كُلٌّ مِنْكُمَا تَدَّعِي أَنَّ الابْنَ الْحَيَّ هُوَ ابْنُهَا وَأَنَّ الابْنَ الْمَيْتَ هُوَ ابْنُ الأُخْرَى. لِذَلِكَ اِيتُونِي بِسَيْفٍ». فَأَحْضَرُوا لِلْمَلِكِ سَيْفاً. فَقَالَ الْمَلِكُ: «اشْطُرُوا الطِّفْلَ الْحَيَّ إِلَى شَطْرَيْنِ، وَأَعْطَوْا كُلاًّ مِنْهُمَا شَطْراً». فَالْتَهَبَتْ مَشَاعِرُ الأُمِّ الْحَقِيقِيَّةِ وَقَالَتْ لِلْمَلِكِ: «أَصْغِ يَاسَيِّدِي، أَعْطِهَا الطِّفْلَ وَلاَ تُمِيتُوهُ». أَمَّا الْمَرْأَةُ الأُخْرَى فَكَانَتْ تَقُولُ: «لَنْ يَكُونَ لَكِ وَلاَ لِي: اشْطُرُوهُ». عِنْدَئِدٍ قَالَ الْمَلِكُ: «أَعْطُوا الطِّفْلَ لِلْمَرْأَةِ الَّتِي أَرَادَتْ لَهُ الْحَيَاةَ، فَهِيَ أُمُّهُ»).
- هذه القصة - حتى لو قيل أنها من الأساطير - تُلخّص حقيقة الأمومة لدى المرأة السويّة.
- إن الأمومة فطرة الله في الأنثى، وغريزة من أقوى الغرائز لدى المرأة السوية، وتبرز معالمها فى الطفولة المبكرة حين تحتضن دُميتَها وتعتني بها.. وحين تتفتّح ببلوغها ورُشدها واقترانها بشريك حياتها، تُزيِّن الدنيا بأرق وأرقى عواطف البشر وأبقاها.. بل إننا نجد مِن الفتيات مَن تُقدِم على الزواج فقط مِن أجل أن تُصبحَ أمّاً تعتني بطفلها، ولولا هذه الغريزة القوية لعزفت معظم النساء عن الزواج والحمل والولادة. كما أن ما تعيشه الزوجة التي تُحرم مِن الذريّة مِن الشعور بالحرمان الشديد ناشئ مِن شعورها بحرمانها من أهم خصائصها كامرأة، ومهما حاولت أن تعوّض هذا النقص بصورة أو بأخرى، فإنها فى نهاية المطاف ستبقى تستشعر فراغاً هائلاً في حياتها، وأن لا شىء يمكنه أن يملأ هذا الفراغ، وقد تظهر بعضُ أعراضِ الاضطرابات النفسية أو النفسجسمية إلى أن تجدَ لها حلاً ومخرجاً، وقد تختار أن يكون الحل بالنسبة إليها تبنّي طفلٍ تمنحه حب الأمومة أو تختار التسامى بغريزة الأمومة مِن خلال رعاية الأيتام، أو العمل فى دور حضانة الأطفال، أو رعاية أطفال العائلة، أو ما شابه.. هذه هي فطرة الله التي فطر المرأة عليها، وجعلها من أقوى خصائصها ووظائفها لتعمر بها الحياة.