خطبة الجمعة 24 ذوالقعدة 1440: الشيخ علي حسن : الخطبة الثانية: أكبر سجن على الأرض

- عند افتتاح أعلى برج، يتداعى الناس حول العالم للحديث عن هذا البرج، وكيفية إنجازه، والسعي لزيارته، والتجول فيه، وأخذ الصور التذكارية معه، وما إلى ذلك.
- وعند اكتشاف أكبر حقل للغاز الطبيعي، تتداعى وسائل الإعلام والمؤسسات الاقتصادية حول العالم للحديث عن آثار هذا الاكتشاف، وكيفية الاستثمار، وما إلى ذلك من شئون سياسية واقتصادية متعلقة به.
- وهكذا، كلما تم إنجاز أو اكتشاف أكبر أو أعلى أو أضخم شيء بين أمثاله، انصبّ اهتمام الناس عليه، سواء من قِبل عامتهم، أو من قبل المختصين في ذلك المجال، وتهافتوا عليه.
- ولكن هناك مكان على الكرة الأرضية هو الأكبر من نوعه، لا على نحو إيجابي، بل سلبي جداً، ولا إنساني.. وهو مع هذا لا ينال من العالم أي اهتمام تقريباً، بل ولربما ساهم كثيرون في استمرار وجوده، دون أن يُزعجوا أنفسَهم للبحث عن طرق جدّية للتخلّص منه نهائياً.
- هذا المكان هو ما عبّر عنه المؤرخ الإسرائيلي البريطاني وأستاذ العلاقات الدولية في جامعة أكسفورد (آفي شليم) في مقال بعنوان (بعد عشرة أعوام على غزة، ما زالت إسرائيل تُخطِّط لاستخدام قوة وحشية لا تنتهي) بقوله أن إسرائيل بعد انسحابها من غزة عام 2005، حوّلت هذا القطاع إلى أكبر سجن على الأرض!
- وأضاف الكاتب أنه منذ ذلك الحين، تمثّل أسلوب إسرائيل في التعامل مع غزة في أمرين: الأول هو الكذب، والثاني هو الوحشية القصوى الممارَسة ضد المدنيين.
- ثم تحدّث عن عملية (الرصاص المصبوب) التي شنّتها إسرائيل في ديسمبر 2008، وواصلت فيها قصف القطاع ذي الكثافة السكانية العالية جواً وبراً وبحراً على مدى اثنين وعشرين يوماً.
- ووصف الكاتب عملية (الرصاص المصبوب) بأنها لم تكن حرباً، بل (مجزرة من جانب واحد)، فمن الجانب الإسرائيلي قًتل 13 شخصاً، بينما قُتل من الجانب الفلسطيني 1417 شخصاً، من بينهم 313 طفلاً، كما أصيب من الجانب الفلسطيني 5500 شخصاً، ووفقا للتقديرات فإن 83 % من الضحايا الفلسطينيين كانوا من المدنيين.
- لا شك أن البشرية عبر التاريخ عرفت سجوناً ومعتقلات ضخمة بشعة، ارتُكبت فيها صنوف التعذيب والقهر والقتل والجرائم اللاأخلاقية وغير ذلك.
- سجون الحجاج بن يوسف الثقفي كانت وما زالت مضرباً للمثل، وهو الذي كان يفتخر بأنّه لم يكن أحدٌ - على عهده - أجرأ منه على الدّم.
- وفي صحيح الترمذي برقم ٢٣١٩: (.... عن هشام بن حسان قال: أحصَوا ما قتل الحجاج صبراً) أي مقيَّداً أو دون مقاومة في ساحة قتال ومواجهة (فبلغ مائة ألف وعشرين ألف قتيل).
- وعلّق ابن الأثير في كتابه (جامع الأصول في أحاديث الرسول) على الخبر قائلاً: (إسناده صحيح).
- في كتاب (حياة الحيوان الكبرى) للدميري أنه: (اتخذ الحجاج الثقفي سجوناً لا تقي مِن حرّ، ولا بَرد، يقول المؤرخون: مات في حبسه خمسون ألف رجل، وثلاثون ألف امرأة، منهن ستة عشر ألفاً مجرّدات) بلا ثياب تسترهن بشكل كاف (وكان يحبس الرجال والنساء في موضع واحد).
- سجون صدام حسين أيضاً صارت مَضرباً للمثل في بشاعة الجرائم التي ارتُكبت فيها، وكيف تم تغييب عشرات الآلاف من أبناء العراق وغيرهم، وقتلهم تحت التعذيب، وحبسهم في زنازين رهيبة، والتفنن في التخلص منهم بالتفجير، والفرم، والتذويب، والمدافن الجماعية حال حياتهم، وغير ذلك.
- ولا يخفى أن أسرى الكويت ذاقوا مرارة سجون صدام إبان الغزو، وما زال رفات الكثير منهم ممن قُتلوا ظلماً وجوراً مغيّباً ومجهول المصير.
- هذه أمثلة من بعض السجون الكبيرة، إلا أن بقاء غزة كأكبر سجن في التاريخ، وعلى الكرة الأرضية وفي القرن الحادي والعشرين، يُعدّ وصمة عار في جبين المجتمع الدولي الذي يدّعي أنه
يرفع راية الحرية والتحضر وحقوق الإنسان.. ولا تتوقف الجرائم الإسرائيلية عند هذا الحد.
- فقبل أيام، جاءت الجرافات الإسرائيلية لتزيل مائة وحدة سكنية للمقدسيين في مشهد مأساوي أعاد للذاكرة مأساة اللاجئين الفلسطينيين، الذين هُجِّروا قسراً عن بَلداتهم ومُدنِهم على أيدي العصابات الصهيونية في عام 1948، وبذا قامت السلطات الصهيونية بتشريد وتهجير مئات الأسر.
- وتُعدّ عملية الهدم الواسعة، الأكبر التي تشهدها المدينة المقدسة، منذ أحداث حرب 1967، التي احتلت خلالها إسرائيل الضفة الغربية وقطاع غزة، وارتكبت وقتها مجازر وعمليات هدم واسعة طالت منازل الفلسطينيين.
- وبفعل آلات الهدم والجرافات، وقرارات سلطات الاحتلال بإزالة الحي بالكامل، أصبحت هذه العوائل التي تضم أطفالاً ونساءً ومسنّين بلا مأوى، كما لم يتمكن سكّان البنايات من إخراج حتى مقتنياتهم الشخصية من منازلهم، بعد أن ألقى بهم جنود الاحتلال في الشارع.
- وأصيب عشرات السكان، خلال اعتداء قوات الاحتلال عليهم بالضرب ورشّهم بغاز الفلفل، على الوجوه خلال تصدّيهم لعمليات الهدم، والتي تخلّلتها إطلاق القنابل الصوتية تجاههم.
- علماً بأن هناك ضعفي هذا العدد من المساكن سيتم هدمها في خطوة لاحقة.. وبذا تكون أكبر عملية تطهير عرقي بحق الفلسطينيين في المدينة المقدسة.. فأين المجتمع الدولي من ذلك؟
- علماً بأنه قد فشلت قبل يومين محاولة استصدار مجرد بيان من مجلس الأمن للتنديد بهذه الجريمة، بسبب الفيتو الأمريكي الذي مورس أولاً مع هذا البيان، ثم مع نسخته المعدلة (والمخفَّفة).
- تأتي كل هذه الجرائم في الوقت الذي تقوم فيه الإدارة الأمريكية الحالية بالإصرار على تسويق (صفقة القرن) على الرغم من الفشل المتكرر الذي واجهه المشروع في خطواته المختلفة. وما ردود الفعل السلبية تجاه المؤتمر الذي عُقد في البحرين، ثم ردود الفعل الشعبية على زيارة عدد من الإعلاميين العرب المتصهينين إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة خلال الأيام الماضية لتسويق التطبيع مع الكيان الغاصب إلا خيرُ دليل على فشل كل محاولات الترويج لصفقة القرن والتطبيع مع هذا الكيان الغاصب والعنصري المتوحش. ونأمل أن تبقى كل القوى الشعبية والجهات الرسمية الرافضة للتطبيع وصفقة القرن على موقفها الصامد مهما عظُمت الضغوطات.