خطبة الجمعة 3 ذوالقعدة 1440: الشيخ علي حسن : الخطبة الأولى: راتبي لا بركة فيه


- قال تعالى: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَٰكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) (الأعراف:96).
- الأصل في مادة " برك" هو ثبات الشيء. يقال: (بَرَكَ الجَمَلُ: ثَنَى رِجْلَيْهِ وَأَلْصَقَ صَدْرَهُ وَمِنْطَقَةَ بَطْنِهِ بِالأرْضِ)، و(البِرْكة: مستنقع الماء)، وهو ماء ثابت في مكانه، و (بَرَكَ الرَّجُلُ: ثَبَتَ، أَقامَ). والبَرَكة في المصطلح الديني هي: ثبوت الخير الإلهي في الشيء ونماؤه وزيادته.
- وهي تختلف بحسب الأغراض المتوقعة من الأشياء، فالطعام المبارك هو طعام يُشبِع جمعاً كثيراً مثلاً، والوقت المبارك هو ما يسع أعمالاً كثيرة.. وهكذا.
- وفي القرآن حديث عن البركة كما في الآية السابقة، كما أن في الأحاديث الشريفة هناك كلام مباشر عن أسباب حصول البركة في الشيء.. مثلاً: عن الإمام الصادق (ع): (صِلَةُ الرَّحِمِ‏ تُزَكِّي الْأَعْمَالَ، وَ تُنْمِي الْأَمْوَالَ، وَ تُيَسِّرُ الْحِسَابَ، وَتَدْفَعُ الْبَلْوَى، وَ تَزِيدُ فِي الْأَعْمَارِ).
- ولكن في المقابل هناك أحاديث تنبه إلى نزع البركة في بعض الحالات، ومن بينها ما جاء في الكافي بسند عن عن أبي حمزة عن أبي جعفر (ع) قال: (وجدنا في كتاب رسول الله (ص): إذا ظهر الزنا من بعدي: كثُر موت الفجأة، وإذا طُفِّف المكيال والميزان: أخذهم الله بالسنين والنقص، وإذا مَنعوا الزكاة: مَنعت الأرض بركتها من الزرع والثمار والمعادن كلها....).
- وما يهمني هنا الكلام عن التطفيف، والذي جاء كمفردة من مفردات القرآن الكريم مع بيان معناها حيث قال تعالى: (وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ، الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ، وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ) (المطففون:١-٣).
- والتطفيف لا يقتصر على عالم التجارة.. فالموظف يمكن أن يكون من المطففين..
- فهذا الموظف الذي يأتي إلى عمله متأخراً دون عذر ويترك عشرات الناس بانتظاره، ويضيع أوقاتهم أليس من المطففين؟
- والموظف الذي لا يأتي على رأس عمله دون أخذ إجازة، أليس من المطففين؟
- والموظف الذي يقضي وقته في العمل بعيداً عن مكتبه ويشغله بالأحاديث الجانبية أو بغير ذلك مما يكون على حساب إنجاز عمله أو التعامل مع المراجعين أليس من المطففين؟
- وعندما يكون بإمكان الموظف إنجاز العمل في نفس الوقت ولكنه يماطل ويطلب من المراجع أن يراجع الإدارة بعد أيام، أليس من المطففين؟
- ألا يريد نفس هذا الموظف أن تُنجَز معاملاتُه على أكمل وجه، وفي أقصر مدة زمنية ممكنة، بينما لا يقوم هو بذلك بحق الآخرين؟
- هذه الصورة مشابهة تماماً لقوله تعالى: (الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ، وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ).
- طبعا للمسألة بعد شرعي مرتبط بحلية الراتب بالمقدار الذي يتخلف فيه الموظف عن أداء عمله.. ففي استفتاء للمرجع السيد فضل الله: ما حكم من يعمل في الدوائر الحكومية أو الخاصة فيطرأ عليه أحياناً عملٌ ما فيأخذ إجازة مرضية من أحد الأطباء، فما حكم أخذ راتب ذلك اليوم إن كان العمل لا يجوز؟ج: الأمر مُشكِل إذا كان عقد الوظيفة لا يجيز ذلك في مفروض السؤال.
- وفي استفتاء للمرجع السيد علي السيستاني: أيجوز للمسلم الموظف في مكتب خاص أو دائرة حكومية أو المتعاقد على عمل ما بأجر يُحسب بالساعات في البلدان غير الإسلامية، أن يتهرب من العمل بعض الوقت أو يتهاون أو يتباطأ متعمداً؟ وهل يستحق كل الأجر؟ الجواب: لا يجوز له ذلك، وإذا فعل فلا يستحق كل الأجر.. فما بالك بالدول الإسلامية؟
- ثم هناك البعد الأخروي.. (وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ).. ماذا ينتظرهم عند الله في حساب الآخرة؟ هو سبحانه وتعالى أعلم، وكلمة (وَيْلٌ) مفتوحة على كل الاحتمالات.
- لكن هناك بعد آخر أيضاً، وهو نزع البركة من الراتب.. وكثيرون يشتكون من هذا، والأسباب مختلفة، ولكن من بينها التطفيف في العمل.
- فإذا أردنا أن يبارك الله في أرزاقِنا، فلابد من مراعاة مجموعة من الأمور، من أهمها أن نؤدي مسئولياتنا بالصورة التي نتمنى أن يؤديها الآخرون عندما يتعلّق الأمرُ بنا، ومَن منّا مَن لا يريد أن تُنجَز معاملاتُه على أكمل وجه، وفي أقصر فترة زمنية ممكنة؟ إن مقدِّمات تحقيق البركة في الزمن وفي الرزق وفي غير ذلك من الأمور بيدي وبيدك، فماذا نختار؟