خطبة الجمعة 26 رمضان 1440: الشيخ علي حسن : الخطبة الثانية: بُعبع معاداة السامية

- في العقود الأخيرة أصبح عنوان معاداة السامية من العناوين المخيفة والتي يحذَر الكثيرون من الابتلاء بها، وإذا ما وُجِّهت إلى أحدهم أصابع الاتهام بذلك، سارع إلى التبرؤ من ذلك.
- يقال أنه تم استعمال المصطلح لأول مرة من قبل الباحث الألماني (فيلهلم مار) لوصف موجة العداء لليهود في أوروبا الوسطى في أواسط القرن التاسع عشر. ثم تمّ تعميم المصطلح في ألمانيا عام 1879 من قبل يهود أوروبا كمصطلح لـكراهية اليهود، وأصبح هذا المصطلح شائعاً بعدها.
- والواقع أن هذا العنوان يُستحدم كبعبع للترهيب، وحاجز دفاع أول عن المشروع الصهيوني.
- ومن هنا أنشأت وزارة الخارجية الأمريكية - مثلاً - إدارة على عهد جورج بوش الابن، مهمتها مراقبة الأنشطة المعادية للسامية على مستوى العالم، وإصدار تقرير سنوي يوضِّح الإجراءات التي قامت بها جميع الدول لمكافحة الظاهرة!
- بل وصل الأمر إلى حد أن انتقاد الحكومة الإسرائيلية داخل الكيان الصهيوني بات على عهد نتنياهو صورة من صور معاداة السامية كما جاء في مقال نُشر في الغارديان البريطانية، والذي حذّر أيضاً من انتقاد الليبراليين في العالم الغربي لإسرائيل، لأن النتيجة ستكون عكسية!
- اليوم، وبفعل الآلة الإعلامية وجهود الصهاينة والاستكبار العالمي أصبحت السامية عنواناً مقدساً في زمن كفَر الناس فيه بالمقدسات، وتجرؤوا حتى على الذات الإلهية بشتى الصور.
- فالاستكبار العالمي والصهيونية شاءتا أن تجعلا من عنوان السامية عنواناً مقدساً غير قابل للمساءلة أو الاتهام، ولا يجوز لأحد أن يذكره إلا محفوفاً بالثناء والمديح والتعظيم والتبجيل، ومن يتعرّض لذلك يُحاسَب أمام المحاكم، ويعاقب على ذلك أشد العقاب.
- والواقع أن استعمال جذر كلمة (سامي) يعطي انطباعاً كاذباً بأنّ معاداة الساميّة موجّهة ضد
جميع الساميين، والحال أن المسألة خاصة باليهود فقط، وإن لم يكونوا من ذرية سام.
- سام، بحسب الفرض التوراتي هو الابن المباشر للنبي نوح (ع)، فبحسب القصة التوراتية فإن البشرية على الكرة الأرضية بعد طوفان نوح (ع) انقرضت بشكل تام، ما عدا من كانوا في السفينة، وأن كل البشرية من بعد الطوفان تعود في انتسابها إلى الأولاد الثلاثة لسام وحام ويافث. يقول النص التوراتي: (هؤُلاَءِ الثَّلاَثَةُ هُمْ بَنُو نُوحٍ. وَمِنْ هؤُلاَءِ تَشَعَّبَتْ كُلُّ الأَرْضِ).. بالطبع فإن علم الجينات اليوم أثبت عدم صحة هذا الكلام.
- وتطرح التوراة فكرة التقسيم على وفق لون البشرة:
- ذرية سام تشمل الشعوب الساكنة في شبه الجزيرة العربية والعراق والشام، مع إخراج الكنعانيين وضمهم إلى الحاميين.
- ذرية حام، وتشمل ذوي البشرة الداكنة من أهل أفريقيا.
- ذرية يافث وتشمل الشعوب الساكنة في الشرق الأقصى وبلاد فارس وأوربا.
- وتصّرح التوراة أن العرب (بما يشمل يقطان وابنه حضرموت ثم ذرية إسماعيل (ع)) – مع استثناء الكنعانيين – ينحدرون من ذرية سام.
- أي أن الساميين بحسب هذا الفرض يشمل العرب كما يشمل بني إسرائيل.. ولذا فإن معاداة السامية معاداة للعرب، كما هي معاداة لبني إسرائيل.
- ولكننا لا نسمع أحداً في يومٍ ما احتج أو رفع قضية في المحاكم الدولية حين يُساء إلى شخص سامي من غير اليهود، ولا اتُّهم أحد بالعنصرية إن أساء إلى عربي.. فالقداسة كل القداسة للصهيونية التي ارتدت لباس السامية.
- الأمر الآخر أن كل الدلائل التاريخية والعلمية الحديثة المرتبطة بالبحوث الجينية تؤكد أن اليهود اليوم أشمل من بني إسرائيل.. بمن فيهم نتنياهو فهو ينتمي إلى فرع جيني أوروبي ولا علاقة له ببني إسرائيل والسامية.
- عندما تم تعميم المصطلح في أوروبا، استفاد هرتزل من ذلك، وجعل معاداة السامية مشكلة العالم الغربي، ومحذراً من طبيعة العنصر اليهودي في أي مجتمع من المجتمعات بلحاظ أنه بطبيعته عنصر مثير للاضطراب والتمرد.
- وقد استند هرتزل إلى هذا الرأي في مراسلاته مع ملوك وحكام أوروبا، فصوّر لهم أن بقاء اليهود داخل المجتمعات التي يحكمونها ليس في صالح هذه المجتمعات ولا في صالح حكوماتها، ولهذا يجب على هذه الحكومات تشجيع فكرة الصهيونية وإنشاء الوطن اليهودي حتى تتخلص هذه الحكومات من العناصر المناهضة لها.
- ولم يكتف زعماء الصهيونية بتوظيف فكرة معاداة السامية لخدمة أهدافهم، وإنما نجدهم يفسرون علاقات اليهود في التاريخ القديم مع الشعوب التي عاشوا بينها أو اتصلوا بها داخل إطار نظرية معاداة السامية، وهي بلحاظ ما سبق عبارة عن كذبة ومغالطة كبيرة.
- إن جزء من عملية المواجهة مع الصهيونية تتمثّل في نشر التوعية الخاصة بتعرية أكاذيبها وتزويرها للتاريخ، بما في ذلك معاداة السامية التي تحولت إلى بعبع يتم عن طريقه تخويف الناس من انتقاد الصهاينة وكيانهم اللقيط. إن القوة الإعلامية التي وظّفتها الصهيونية في هذا الطريق، وعمالة وانتهازية بعض الإعلاميين العرب مؤخراً ممن تحوّلوا إلى أدوات مأجورة لترويج تلك الأضاليل تُبرز من جديد أهمية إحياء الذكريات المرتبطة باغتصاب الأراضي الفلسطينية والعدوان الصهيوني بشتى صوره، وذلك من قبيل إحياء ذكرى يوم القدس العالمي.. فلنتحمل مسئوليتنا في هذا الطريق، لاسيما مع اشتداد حملة الترويج والدعاية والتهيئة للتطبيع تناغماً مع صفقة القرن الباطلة والظالمة، والله هو المستعان وهو على كل شيء شهيد.