خطبة الجمعة 29 رجب 1440: الشيخ علي حسن : الخطبة الثانية: لماذا خُتمت النبوة؟

- (مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا) [الأحزاب:40].
- من ضروريات الرسالة الإسلامية أن النبوّة خُتمت في سيدنا محمد (ص)، فهو خاتم النبيين كما جاء في الآية السابقة، وإن حاول بهاء الله صاحب الدعوة البهائية أن يلتف على هذه الحقيقة الواضحة بادّعاء أن كلمة (خاتم) في الآية تعني ما يرتديه الإنسان في أنامله للتزين، فمحمد زينة النبيين، لا أنه آخر النبيين بحسب زعم بهاء الله.
- بالطبع فإن هذا الكلام مجرد ادعاء تافه، وتأويل ضعيف ومخالف للظاهر بشكل كبير.
- وقد جاءت روايات عديدة في التأكيد على ما جاءت به الآية من معنىً للخاتمية، ومن بينها الحديث المشهور الذي قال فيه النبي (ص) لعلي (ع): (أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي) أو لا نبوة (بعدي).
- إلا أنّ البعض اعترض على ختم النبوة.. فالنبوة إنْ كانت حاجة للبشرية، فهذا يقتضي أنْ لا تتوقف عند حدٍّ أو زمن معيّن، بل تستمر وتمتد ما بقي الإنسان.
- وبتعبير آخر، إنْ كان عقل الإنسان ناقصاً ويحتاج إلى هداية الوحي، فاللازم استمرار هذا الوحي الإلهي، فلماذا انقطع بوفاة النبي محمد (ص)؟
- وقد انبرى عدد من المفكرين المسلمين من قبيل الشهيد الصدر والشهيد مطهري لتوضيح هذه الشبهة والردّ على التساؤلات الواردة فيها.. وملخص إجاباتهم تتمثل في الآتي:
- انتقال البشرية من حالة البساطة الفكرية والاجتماعية والإدارية والاقتصادية والثقافية جاءت يشكل تدريجي حتى بلغت مرحلة متقدمة نسبياً فيها.
- وكانت للنبوات الإسهامات الواضحة في هداية الإنسان وتهذيبه وتربيته، وكان لكل مرحلة نبيّها الذي يقوم بدور الدليل والهادي والمربّي، والرسالة الخاصة بها التي تمثّل سراجاً لها ودستوراً.
- ولما بلغت البشرية مستوىً معيناً من النضج، احتاجت إلى رسالة سماوية نوعية تستطيع الاكتفاء بها من خلال ما تمتاز به هذه الرسالة من صفات معيّنة.. وأهمها امتلاك كتاب سماوي ذي خصوصيات:
1. إعطاؤه العقل مكانة عالية ومساحة كبيرة للحركة والتأثير. هذا الأمر يتضح بشكل كبير حينما نقارن بين تجربة المسلمين وتجربة غيرهم من أتباع الرسالات السماوية.
- إذ لم يُعهد أن شريعة من الشرائع التي سبقت الإسلام اعتمدت العقل في بنائها الإيماني كما هو الحال في الإسلام. لا النصوص الدينية المتوفرة لديها تساعد على ذلك، ولا تجربتها الدينية التاريخية تعطي مؤشرات إيجابية في هذا المجال.
- ولنتذكر تجربة الكنيسة مثلاً في القرون الوسطى مع العقل والمعطيات العلمية، وهي التجربة المريرة التي ما زالت تبعاتها محفورة في أذهان الغربيين وتدفعهم إلى الابتعاد عن الدين.
- هذه المساحة العريضة المعطاة للعقل في الرسالة الإسلامية تسمح بأن يتوافق مضمونها مع تنامي العقل البشري وإبداعاته الفكرية والعلمية، لا أن يتضارب ويتعارض معها.
- بل كلما وجدنا تعارضاً ظاهرياً بينهما، وكنا على يقين من المعطى العقلي والعلمي، أوّلنا من خلاله النص الديني لأننا نؤمن أن مَن أودع أسرار الوجود هو من أنزل الكتاب.
2. اتصاف القرآن الكريم بالمرونة الكفيلة بمواكبة التغيرات في الحياة من خلال القواعد الشرعية المستفادة منه ومن السنة، وتقرير مجموعة من القواعد الحاكمة، أي القواعد التي بإمكانها نقض الأحكام الأولية وتغييرها.
- مثال ذلك قاعدتا نفي الحرج والضرر: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) [الحج:78]. وقول النبي (ص): (لا ضرر ولا ضرار). فعلى ضوء هاتين القاعدتين، يرتفع أو يسقط كلّ حُكم من أحكام الشريعة إن صار لسبب أو لآخر موجِباً للحرج أو الضرر.
- وتقادم الزمان وتطوّر الحياة لا يُبليان هذا النص السماوي وما فيه من تشريعات ووصايا وتعاليم، وقد جاء عن الإمام الصادق (ع) أنه قال: (إن القرآن حي لم يمت، وإنه يجري كما يجري الليل والنهار، وكما يجري الشمس والقمر، ويجري على آخرنا كما يجري على أولنا).
3. تحلّي النص القرآني بالعمق في معانيه ومضامينه، ومع هذا فهو وبصورة عجيبة يكون قابلاً للفهم والاستفادة مِن قِبل الإنسان العادي البسيط، تماماً كما أنّ بإمكان الإنسان صاحب المعارف العلمية والفلسفية ذلك، ولكن كلٌّ منهم بمستواه.
- أحياناً تسعى لاقتناء كتاب يُثني عليه كثير من الناس، وقد استمتعوا بقراءته، ولما تبدأ بقراءته تستغرب كيف كان لهم قراءته.. لأنك تجده سخيفاً جداً.. أو بلا مضمون.. أو أن لغته لا تناسبك.. أو غير ذلك من الأمور التي تدفعك لعدم الإقبال عليه.
- هذا إذا كان كتاباً عصرياً، فكيف لو كان قد أُلِّف قبل أكثر من ألف سنة وبأسلوب ذلك الزمان؟
- أما القرآن فالأمر فيه مختلف تماماً.. وكما قال أمير البيان علي (ع) في نهج البلاغة: (ثم أَنزلَ عليه الكتابَ نوراً لا تُطفأ مصابيحُه، وسراجاً لا يَخبو توقّدُه، وبحراً لا يُدرَك قَعرُه، ومِنهاجاً لا يَضلُّ نَهجُه، وشُعاعاً لا يَظلمُّ ضَوءُه، وفُرقاناً لا يُخمَد برهانُه، وتبياناً لا تُهدَم أركانُه، وشفاءً لا تُخشى أسقامُه، وعِزّاً لا تُهزَم أنصارُه، وحقّاً لا تُخذَل أعوانُه. فهو مَعدِنُ الإيمانِ وبُحبوحتُه) أي وسطه (وينابيعُ العلمِ وبحورُه، ورياضُ العدلِ وغُدرانُه، وأثافيُّ الإسلامِ وبنيانُه، وأوديةُ الحق وغيطانُه. وبحرٌ لا يُنزِفُه المستنزِفون، وعيونٌ لا يُنضِبُها الماتِحون) الذين يستقون منها الماء (ومناهلُ لا يُغيضها الواردون، ومنازلُ لا يَضلُّ نهجَها المسافرون، وأعلامٌ لا يَعمى عنها السائرون، وآكامٌ لا يجوز عنها القاصدون).
- ومما سبق يتضح، أن انقطاع النبوة وختمَها بوفاة رسول الله (ص) لا يعني انقطاعَ فيضِ النبوة وعطاءاتِها، لاسيّما وأن النبي الأكرم (ص) لم يُغادِر هذه الدنيا حتى بيّن للناس معالمَ طريقِهم حيث قال: (إني قد تركت فيكم الثقلين، أحدُهما أكبر من الآخر، كتابَ الله وعترتي أهل بيتي، فانظروا كيف تخلفوني فيهما، فإنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض)، فقد كانت عترتُه من أهل بيته (ع) - وما زالت - من خلال الإرث الفكري والتشريعي والأخلاقي والحِكَمِي الذي تركته للأجيال المتعاقبة المكمِّلةَ لمسيرة النبوّة، والمُتمّةَ لمهامّها، والحافظةَ لمشروعها على طول الخط، حتى سلّمت الأمانة إلى العلماء المتقين العاملين الذين أوكِلت إليهم المحافظة على هذا الإرث وتفعيلِه وجعلِه متناغماً مع حاجاتِ كلِّ زمان، وهادياً في كل مكان.