خطبة الجمعة 8 رجب 1440: الشيخ علي حسن : الخطبة الثانية: ملكيون أكثر من الملك

- لا شك أن عنوان الهداية - أعني أن تهدي إنساناً إلى ما توصّلت إليه من أبواب الخير - يُعدّ من الأمور المحبّبة والمندوب إليها في الإسلام.
- وقد جاء في صحيح البخاري برقم 3973: (عن أبي حازم قال أخبرني سهل بن سعد (رض) أن رسول الله (ص) قال يوم خيبر: لأُعطين هذه الراية غداً رجلاً يَفتح الله على يديه، يحبُّ اللهَ ورسولَه ويحبُّه اللهُ ورسولُه. قال: فبات الناس يدوكون) أي يخوضون ويتناقشون (ليلتهم أيهم يُعطاها، فلما أصبح الناس غَدَوا على رسول الله (ص)، كلُّهم يرجو أن يُعطاها. فقال: أين علي بن أبي طالب؟ فقيل: هو يا رسول الله يشتكي عينيه. قال: فأرسَلوا إليه فأُتي به، فبَصقَ رسول الله (ص) في عينيه ودعا له فَبرَأ حتى كأنْ لم يكن به وجع. فأعطاه الراية فقال علي: يا رسول الله، أقاتلُهم حتى يكونوا مثلَنا؟ فقال: انفُذ على رسلِك حتى تنزِلَ بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله فيه، فوالله لأَن يهدي الله بك رجلاً واحداً خيرٌ لك مِن أن يكون لك حُمْر النَّعَم).
- في المنظور الإسلامي، هكذا هي قيمة أن تهدي إنساناً.. ولكن الكلام كلَّ الكلام في الأسلوب والضوابط التي على أساسها تتحرك في هذا الاتجاه.
- على شبكة الإنترنت مواقع ومنتديات إسلامية ومذهبية مخصصة للتخاصم، وهي أشبه ما تكون ساحة حرب كلامية، وتُذكِّر المطّلع عليها بعُنف النقاشات والبحوث التي كانت في أجواء علم الكلام، والتي كانت تصل في بعض محطاتها إلى تكفير هذا الطرف أو ذاك، ولربما لأبسط الأمور، ولم تحقق للأمة الإسلامية إلا المزيد من التمزّق والتشرذم والتشظّي.
- بالطبع هذه الصورة ليست منحصرة بما يجري على شبكة الإنترنت، ولكنها باتت هي الصورة الأوضح والأكثر انتشاراً، لاسيما عند بعض الشباب المتحمّسين.
- فما هو موقف أهل بيت النبوة (ع) من هذا الأسلوب؟ لعل الحديث التالي يوضّح المسألة بما يدعو الأعزاء إلى إعادة التفكير في الأمر، وفي موقفهم، وفي أساليبهم.
- في وسائل الشيعة: (قال أبو عبد الله (ع): اجعلوا أمرَكم هذا لله، ولا تجعلوه للناس، فإنه ما كان لله فهو لله، وما كان للناس فلا يصعد إلى السماء. ولا تُخاصِموا بدينكم، فإنّ المخاصمة مُمرضةٌ للقلب).
- تنبيه مهم جداً.. لنبحث في دوافع حركتنا في هذا الاتجاه، هل هي انتصار للذات؟ هل هي استعراض للقوة؟ هل هناك دوافع دنيوية خفية لا تنكشف إلا بالمراجعة الصريحة مع النفس؟
- ما كان لله ينمو، وأما ما كان للناس أو للذات فلا بركة فيه، ومن أهم نتائجه السلبية أنه يمكّن الأحقاد ويوغِر القلوب.. إن كنت قد ربحت فرداً أو فردين أو عشرة أو مائة، فإنك قد خلقت ملايين الخصوم الذين يبغضونك ويبغضون ما تنتمي إليه.
- ثم هل تريد أن تكون ملكياً أكثر من الملك؟ ها هو صاحب الأمر يقول لك لا تسلك هذا السبيل بهذه الصورة.. هناك طرق أخرى: (ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي
هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) [النحل:125].
- وعن الإمام الصادق (ع): (كونوا دعاة للناس بغير ألسنتكم، ليروا منكم الورع والاجتهاد والصلاة والخير، فإن ذلك داعية).
- وعنه (ع): (أي مفضّل! قل لشيعتنا: كونوا دعاة إلينا بالكف عن محارم الله واجتناب معاصيه، واتباع رضوانه، فإنهم إذا كانوا كذلك كان الناس إلينا مسارعين).
- نعود من جديد لتتمة الخبر الذي بدأنا معه، حيث قال الإمام الصادق (ع) بعد ذلك: (إن الله عز وجل قال لنبيه (ص): (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ)، وقال: (أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ). ذروا الناس، فإنّ الناس أخذوا عن الناس، وإنكم أخذتم عن رسول الله (ص) وعلي (ع)، ولا سواء).
- كأنه (ع) يقول: لا تُفسّروا كلامي بشكل خاطيء، وكأنني أقول لا قيمة لاتّباعكم لمدرسة أهل البيت (ع)، وأنّ لكم أن تختاروا ما شئتم، ولكن اعطوا للناس العذر، فالظروف لم تُسعفهم لمعرفة ما عرفتم، وللتمسك بما تمسكتم به.
- ثم قال: (وإني سمعت أبي (ع) يقول: إذا كَتب الله على عبدٍ أن يُدخلَه في هذا الأمر، كان أسرع إليه من الطير إلى وكره).
- أدعو نفسي وأدعو إخواني – ولا سيما الشباب – إلى التفكير ملياً في الدوافع والأساليب التي ينطلقون من خلالها للدعوة لأمر ما، في حركتهم الجدلية مع أتباع الديانات الأخرى، أو داخل الدين الواحد، بل بين أتباع المذهب الواحد، فإن الهداية لما آمنتم به لا تتحقق بالقسوة والإساءة والمناكفات والتخاصم، افتحوا قلوبَكم للناس لتفتحوا قلوبَهم وعقولَهم، ولئن حقّقتم مكسباً واحداً بالأسلوب الخاطيء، فإنّ ما تخسرونه ويخسره الإسلام بذلك يَبلغ أضعافاً مضاعفة. ولتكن سيرتُكم المحمودة وحسنُ خِصالِكم وقلوبُكم الطاهرة - وبلا تصنّع – هي عونُكم في هداية الآخرين، كما قال علي (ع) في ما روي عنه: (إن الوعظ الذي لا يَمُجُّه سَمْع) أي لا تشمئز منه النفوس (ولا يَعدِلُه نَفْع) لأنه الأكثر تأثيراً والأقرب للمصلحة العامة (ما سَكت عنه لسانُ القول، ونَطق به لسانُ الفعل).