خطبة الجمعة 12 جمادى الأولى 1440: الشيخ علي حسن : الخطبة الثانية: إياكم والجرجير!

- موضوع هذه الخطبة لا يخلو من طرافة.. ولكنها طرافة ممزوجة بألم، لأنها تتعلق بالموروث الحديثي، وما وقع عليه من تزوير وتلاعب وتحريف، بينما كان من المفترض أن يُعتنَى بهذا الموروث ويُجَنَّب كل ذلك – على الأقل - باعتباره المصدر الثاني للتشريع.
- موضوعنا حول أحاديث الجرجير! إذ انتشرت رسالة في وسائل التواصل الاجتماعي تتضمن تحذيراً من تناول الجرجير بناءً على مرويات عن النبي وآله. الموضوع في نفسه ليس ذا أهمية، ولكن البحث في خلفياته يكشف لنا نموذجاً لكيفية تغلغل الوضع والتزوير في الأحاديث.
- فلنبدأ باستعراض بعض تلك المرويات، ثم التعليق عليها:
- عن أبي عبد الله عليه السلام قال: (إن رسول الله (ص) قال: أكره الجرجير، وكأني أنظر إلى شجرتها نابتة في جهنم! وما تضلّع منها رجل) أي أكثَر منها (بعد أن يصلي العشاء إلا بات في تلك الليلة ونفسُه تُنازعه إلى الجُذام).
- وعنه عليه السلام أنه قال في الجرجير: (ما مِن عبدٍ بات وفي جوفه شيء من هذه البقلة إلا بات الجذام يُرفرف على رأسه حتى يُصبح، إما أن يَسلم وإما إلى أن يعطب).
- عن أبي جعفر عليه السلام قال: (الجرجير شجرة على باب النار).
- سأل رجل أبا عبد الله عليه السلام عن البقل [الهندباء والباذروج (أي الريحان) والجرجير] فقال: (الهندباء والباذروج لنا، والجرجير لبني أمية).
- أما التعليق على هذه الروايات فضمن النقاط التالية:
1. مرض الجذام مرض بكتيري لا علاقة له بتناول الجرجير، ثم ما علاقة المرض بتناوله ليلاً؟
2. لو درسنا أسانيد الروايات التي تناولت التحذير من الجرجير فسنجد بعضها مراسيل (بلا سند) وبعضها مسندة ولكن من رجالاتها مثلاً (أبو جميلة) وهو الفضل بن صالح، وهو ضعيفٌ جداً، وكان يتعمَّد وضع الحديث، وعيسى بن عبد الله العلوي وهو من المجاهيل، وقتيبة بن مهران وهو مهمل، وحمَّاد بن زكريا وهو مهمل أيضاً.
3. لهذه الروايات أصل أيضاً عند إخواننا أهل السنة، رُويت عن النبي (ص)، ولعلها انتقلت إلى كتبنا بإضافة: قال الباقر وقال الصادق، وذلك بلحاظ التشابه الكبير في مضمونها، ولأن من المفترض أن رواتها سابقين لعهد الإمامين (ع).
- وقد رفضها محقِّقوهم بشدّة مبيّنين بعض أسباب ضعفها.. ففي كتاب (تنزيه الشريعة المرفوعة عن الأخبار الشنيعة الموضوعة) لعلي بن محمد الشافعي، وهو تلخيص لعدد من المؤلفات حول الأحاديث الموضوعة ذكر تحت رقم (1584) جاء بعدة أحاديث تذمّ الجرجير وأكله: (حديث: [بئست البقلة الجرجير، مَن أكل منها ليلاً حتى يتضلّع بات ونفسُه تنازعُه، ويُضرَب بعرق الجذام من أنفه، كُلوها بالنهار، وكُفّوا عنها ليلاً] وأكثر رواته مجاهيل.... وعند الحارث من حديث واثلة: [.... والجرجير بقلة خبيثة، كأنّي أراها نابتة في النار]، قلت: حديث أبي نعيم فيه شيخه أحمد بن جعفر وضّاع، وفيه غيرُه مِن الضعفاء والمتروكين...).
4. يبدو لي بعد البحث أن وضع هذه الرواية جاء في إطار الحرب الكلامية والدعائية ما بين الأمويين - ومركزهم الشام - وخصومهم في البلاد الأخرى – ولم يكونوا شيعة فقط - حيث تمّ توظيف أمور عديدة في هذا المجال ومن بينها ما جاء في صورة حديث نبوي. ومن أمثلة ذلك:
- عن ابن عمر: (أن رسول الله (ص) قال: إن إبليس دخل العراق فقضى حاجته، ودخل الشام فطردوه حتى بلغ ميسان، ثم دخل مصر فباض فيها وفرّخ وبسَطَ عبقرية) أي سجادة.
- وعنه (ص): (الشام صفوة الله من بلاده، يجتبي إليه صفوتَه مِن خَلقه).
- وروايات أخرى أن الشام هي أرض المحشر في الآخرة، وأنها مأوى المؤمنين آخر الزمان....
- وفي المقابل تم وضع أحاديث في ذمّ معقل الأمويين، فعن أبي هريرة قال: (قال رسول الله (ص): يَنِعِقُ الشيطانُ بالشام نَعقةً، يُكذِّب ثلثاهم بالقَدَر) أي أن ثلثا أهل الشام سيتبعونه.
- ومن بين الأمور التي تمّ توظيفها حب الشاميين (حاضنة الأمويين) للجرجير، فهو يُسمى عندهم منذ القدم (قُرّة العين)، فوُضعت روايات في ذم هذه النبتة نكايةً بهم. لاحظ الخبر التالي:
- قال القرطبي في كتابه (التذكرة): (قال فضل بن صالح المعاقري: كنا عند مالك بن أنس ذات يوم فقال لنا: انصرفوا. فلما كان العشية رجعنا إليه فقال: إنما قلت لكم انصرفوا لأنه جاءني رجل يستأذن عليّ زعم أنه قدِم مِن الشام في مسألة فقال: يا أبا عبد الله، ما تقول في أكل الجرجير؟ فإنه يُتحدّث عنه أنه يَنبت على شفير جهنم؟ فقلت له: لا بأس به) أي لا بأس بأكله (فقال: أستودعك الله وأَقرأُ عليك السلام) وكأنّ الرجل ارتاح نفسياً للإجابة فغادر.
- لم يكن للشامي إلا هذا السؤال، وقد قصد به أحد أعلام زمانه مسافراً من الشام إلى المدينة، ويبدو أنه طلب الخلوة به لحساسية الأمر، ولعل هذا في بدايات العهد العباسي بحيث كان السؤال عن الجرجير تهمة الولاء للأمويين! وهو يحب الجرجير ويخاف أن يكون نبتة جهنمية!
5. لاحظ ردّة فعل الإمام الكاظم (ع) – بحسب هذه الرواية - فعن موفق مولى أبي الحسن عليه السلام قال: (كان مولاي أبو الحسن عليه السلام إذا أمر بشراء البقل يأمر بالإكثار منه ومن الجرجير فيُشترى له، وكان يقول (ع): ما أحمق بعض الناس، يقولون إنه ينبت في واد في جهنم، والله عز وجل يقول [وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ] فكيف تنبت البقل؟). وهي متوافقة مع أسلوب أهل البيت في مواجهة الأفكار الباطلة بالموقف العملي بالإضافة إلى البيان الكلامي.
- إن التعامل مع التراث الحديثي بحاجة إلى التثبّت والتحقيق، وعدم الاستعجال بقبول الروايات وترتيب الأثر عليها لما يُعانيه هذا الموروث من مشكلات كالوضع والتحريف والنقصان وانقطاع ارتباطها بسبب الصدور وغير ذلك. وما قضية الجرجير - على بساطتها وعدم أهميتها - إلا نموذج واحد يبيّن لنا كيف كان يحدث الوضع وماهية دوافعه السياسية أو الدينية أو المذهبية أو غير ذلك، وضرورة حذر الإخوة عند نقل ما يدخل تحت عنوان الأحاديث وتداولها وكأنها مسلّمات.. فالمتصيِّدون كُثُر، والكلمة مسئولية.