خطبة الجمعة 6 شعبان 1437: الشيخ علي حسن : الخطبة الثانية: لماذا حرم الله الربا ؟


ـ (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّـهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا)[البقرة:275]. لماذ حرّم الله الربا؟
ـ ذكر الفقهاء والمفكرون الإسلاميون أسباباً عديدة لتحريم الربا من خلال آثاره السلبية، وسأتحدث في هذا اليوم عن مفردة واحدة من هذه المفردات والمتعلقة بفلسفة الإنتاج في الاقتصاد الإسلامي مع ذكر بعض المقدمات:
ـ جعل الإسلام الإنتاج وتنمية الثروة وتسخير الموارد الطبيعية لمصلحة الإنسان هدفاً للمجتمع الإسلامي، وقدّم على المستوى الفكري والتشريعي مجموعة من المقوّمات والوسائل التي تتحقق من خلالها هذه العملية الحيوية.
ـ فكرياً: حثّ الإسلام على العمل والإنتاج، وقيّمه بقيمة كبيرة، وربط به كرامة الإنسان، وعقله، وشأنه عند الله، فالعامل في سبيل قوته ـ على سبيل المثال ـ أفضل عند الله من المتعبّد الذي لا يعمل ويعتاش من غيره.
ـ تشريعياً: قدّم الإسلام تشريعات كثيرة تساهم في تحقيق رؤيته في مسألة تنمية الإنتاج، ومن بينها:
1ـ المنع عن صورٍ من الكسب بدون عمل. مثال ذلك: لو استأجرت أرضاً زراعية من مالكها بمبلغ معين، ثم أجّرتها على ثالث بمبلغ أكبر للحصول على التفاوت بين الأجرتين، فإن هذه العملية ممنوعة شرعاً.. لماذا؟
ـ لأن هذا الوسيط بين الفلاح والمالك لم يقم بأي دور إيجابي في عملية الإنتاج، وإنّما يعيش على حسابها
بدون خدمة يقدّمها إليه، ولو ألغينا دوره فإن هذا سيوفّر على الإنتاج من خلال التقليل من تكاليفه.
2ـ إعطاء الحق للأفراد في إحياء المصادر الطبيعية والإنتاج من خلالها، كالأرض والمناجم، ولكن في نفس الوقت تمنعهم التشريعات الإسلامية من الاحتفاط بها إذا جمّدوا العمل فيها وعطّلوا عملية الإنتاج، ومن مسؤولية الحاكم حينئذ تشجيعهم على مواصلة الإنتاج والاستثمار ورفع المعوِّقات.
ـ فإن استمروا في التعطيل كان من مسؤوليته انتزاعها منهم، لأنّ استمرار سيطرتهم عليها في هذه الحالة يؤدّي إلى حرمان الإنتاج من طاقات تلك المصادر وإمكاناتها.
3ـ عدم السماح للحاكم بإقطاع فردٍ ما شيئاً من مصادر الطبيعة إلا بالقدر الذي يتمكّن الفرد من استثماره والعمل فيه، لأنّ إقطاع ما يزيد على قدرته يبدد ثروات الطبيعة وإمكاناتها الإنتاجية، كما أنه قد يمنع سائر أفراد المجتمع من الاستفادة من هذه الثروة الطبيعية، فيخلق حالة من الاحتكار والطبقية الواضحة.
4ـ تحريم بعض الأعمال العقيمة من الناحية الإنتاجية، كالمقامرة بالمال، التي لا تمثّل عمليّة إنتاجية نافعة للمجتمع، وإن حققت ربحاً استثنائياً لفرد معين (هذا بغض النظر عن آثارها السلبية الأخرى)، وقد اعتبرها الإسلام من مصاديق أكل مال الناس بالباطل.
5ـ ناتج العمل في الثروات الطبيعية الخام ملك العامل لا المستثمر. كصيد السمك، واستخراج المعادن، وقطع أشجار الغابات، وأمثال ذلك، وبالتالي فليس من حق صاحب المركب، وأدوات الصيد، ووسائل الحفر، وآلات القطع مثلاً أن يتملكها، بل له أجرة استعمال تلك الوسائل من قِبَل العامل لا غير.
ـ هذا التشريع يكسر أي احتكار محتمل للثروات الطبيعية، وتختفي معه سيطرة رأس المال على تلك الثروات.
ـ من خلال هذه المفردات، نقترب من فهم نظرة الإسلام إلى مسألة الإنتاج، وحركة الرساميل، وبالتالي فهم إحدى أسباب النهي عن الربا.
ـ فالإسلام بالإضافة إلى السعي لمنع حالة الاحتكار، وبتعبير القرآن: (كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنكُمْ) [الحشر:7]، وبالتالي منع تشكل طبقية حادة في المجتمع، يريد أيضاً توظيف المال والمصادر الطبيعية في عملية إنتاج حقيقية، تعود على الدولة والأفراد بالفائدة، مع تحريك عجلة التنمية والاقتصاد بصورة حقيقية.
ـ أحياناً نجد ضخاً كبيراً للمال في مجال ما، ولكنه لا يحرّك عجلة التنمية والاقتصاد بصورة حقيقية، تماماً كما في المضاربة بالأسهم لشركات وهمية ليس لها وجود إنتاجي خارجي.
ـ حركة المال هذه بشراء وبيع الأسهم لا تعود على عجلة التنمية والاقتصاد بفائدة حقيقية.
ـ وهناك فرق بين أن تشتري أسهم لشركة وهمية، وأسهم لشركة حقيقية منتجة في مجال الصناعة أو بناء العقارات أو تقديم الخدمات وغير ذلك.
ـ ولا أريد هنا أدخل في الحكم الشرعي والفتاوى الخاصة ببيع وشراء هذا النوع من الأسهم، ولكن هل يتوافق هذا مع ما قدّمناه من نظرة الإسلام إلى عملية الإنتاج بتوظيف المال واستثمار المصادر الطبيعية؟
ـ ثم فلنلاحظ أن الانهيارات التي يشهدها الاقتصاد العالمي كما حصل في 2008، أو تشهدها بعض المؤسسات المالية كالبورصة، تعود في جانبٍ منها إلى ضخامة حركة المال دون أن يقابل ذلك حركة اقتصادية إنتاجية حقيقية توازيها أو تقاربها، وهذا مما يحاول الإسلام أن يتجنّبه في نظامه الاقتصادي.
ـ نعود إلى مسألة الربا، ففيها لا يتم استثمار المال في عملية إنتاجية مباشرة، بل إن المال هنا ينتج المال.. وهذا مرفوض إسلامياً.
ـ أي أن صاحب رأس المال إذا أراد أن ينمّيه، فعليه أن يحوّله إلى رأس مال مُنتِج بشكل مباشر، ليساهم في المشاريع الصناعية والتجارية والزراعية، سواء بأسلوب المضاربة، أو الشراكة، أو الإجارة، أو المزارعة، أو غير ذلك من الصور المشروعة.
ـ إن الربا ـ بغض النظر عن ترتب الإثم والعقوبة الأخروية وحرمة الفائدة المأخوذة من خلاله ـ يؤدي عادة إلى حركة المال بصورة خاطئة، تظهر من خلالها طبقة رأسمالية تتجمع لديها الثروات، وتستغل من خلالها حاجات المجتمع، وتنمّي رؤوس أموالها على حساب حاجة المستضعفين الذين يمثّلون الفئة المنتجة في المجتمع. وبذلك يتحول العامل إلى إنسان يكدح لمصلحة الرأسمالي من دون مقابل، ما يوجب استنزاف الطاقة المنتجة لغير مصلحتها، دون أن تتوقف سيطرة الطبقة الرأسمالية على الرساميل، بل تتجاوزها لتسيطر على الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي تضمن لها المحافظة على الظروف التي تمكّنها من الاستمرار في تلبية متطلبات ذلك الجشع اللامتناهي.. بل ومع عولمة الاقتصاد، والتداخل الاقتصادي العالمي بتنا نتحدث عن سيطرة المستكبرين ونهبهم لثروات الشعوب الضعيفة التي تتحول إلى طاقة استهلاكية لا مجال لها إلا الاستقراض الدائم على حساب حاجاتها الحيوية وعزتها وكرامتها، والبقاء تحت ضغط الشركات الاحتكارية في العالم، والدول التي ترعاها، ولا تبحث إلا عن مصالحها.