خطبة الجمعة 29 رجب 1437: الشيخ علي حسن : الخطبة الثانية: صبية إرهابيون


ـ لربما اطلع بعض الأخوة والأخوات على التقرير الصحفي الذي تناولته إحدى الصحف المحلية قبل أيام حول فتاة في الخامسة عشرة، تعيش في إحدى قرى نيجيريا.. استيقظت في الصباح الباكر، وكان طفلها الرضيع بالقرب منها يتنفس في هدوء، ووجهه يلتصق بها، وإذا بها تتفاجأ بمجموعة من النساء يدخلن مسكنها ويسحبنها إلى الخارج.
ـ يضيف التقرير أن هذه الفتاة بدأت تصيح وتبكي وتلقي بنفسها على الأرض، لأنها كانت تدرك ما ترغب فيه تلك المجموعة من النساء. فقد رأت كيف كن يجعلن الفتيات يرتدين الأحزمة الناسفة، وكيف يتم نقلهن بالشاحنات الصغيرة إلى أطراف المدينة، وكيف كانوا يعودون من دونهن.
ـ ويكمل هذا التقرير قصة معاناة فاطمة حين رفضت ما عُرض عليها، وكشفت عن علامات التعذيب بالضرب بالأسلاك والعصي، إذ كانت فاطمة تبدو مناسبة لكي تقوم بمهمة تفجير انتحاري.. صغر سنها، واحتضانها للطفل الرضيع لن يثير الشبهات، ويمكّنها من الدخول إلى أماكن التجمعات بسهولة، لتقتل في لحظة غدر عدداً كبيراً من الناس.
ـ وإذا كانت بعض حالات استغلال الأطفال والمراهقين في العمليات الإرهابية تتم بالإكراه، إلا أنها ليست كذلك دائماً، بل هي في حالات أخرى تتم من خلال عملية غسل للأدمغة وزرع للكراهية.
ـ عقل إجرامي لا ينحصر في أتباع جماعة تكفيرية في بلد أفريقي، بل شهد العالم قبل مدة قصيرة جريمة إرهابية في العراق ذهب ضحيتها العشرات من الأطفال والصبية وهم يلعبون كرة القدم، في حين كان الذي أقدم عليها عن إرادة وتصميم صبي مراهق آمن ـ زوراً ـ بأن طريق الجنة ومجاورة النبي(ص) يمر عبر أشلاء هؤلاء الصبية الأبرياء!
ـ وقبل أيام قلائل سلّم صبي مراهق نفسَه كان قد أُعد من قبل التكفيريين ليفجر جموع الزائرين المشاة في ذكرى استشهاد الإمام موسى بن جعفر(ع).
ـ أية عقلية إجرامية هذه التي تفكّر بهذه الصورة وتُقدم عليها بدم بارد؟ وما علاقة هذا بالإسلام؟
ـ ويستوقفني هنا حديث يُروى عن الإمام موسى الكاظم(ع) أنه: (جاء رجل إلى النبي (ص) فقال: يا رسول الله، قد علَّمتُ ابني هذا الكتابة، ففي أي شئ أُسلمُه؟) فهو يجد أن ابنه غدا مستعداً للعمل وكسب الرزق، وهو يبحث له عن مهنة مناسبة يستهدي فيها النبي (فقال: أسلمه ـ لله أبوك ـ ولا تـُسلمه في خمس. لا تُسلمه سَبّاء) ولعل الأوفق سيّاء كما في بعض الكتب، فالسباء بائع الخمر، والنبي لا يقصد ذلك كما سيتبين بل إنه (ص) استعمل هذه الكلمة في معنى من عنده للدلالة على مهنة معينة فيها ما يسيء إلى المسلمين. (ولا صائغاً، ولا قصاباً، ولا حناطاً، ولا نخّاساً) والنهي في هذه الموارد نهي إرشادي، وليس تحريمياً.. ثم لاحظ أن الحديث عن تسليم فتى غر لا يمتلك الخبرة ولا القدرة الكبيرة على التمييز بين ما هو صحيح وفاسد وحلال وحرام، مما يعرّضه لقبول ما هو حرام وباطل ومضر مع إمكانية الاعتياد عليه، ولربما لو جُعل له الخيار لو كان أكبر سناً وأنضج عقلاً لما اختار هذه المهنة أو تلك، أو اختار إحداها ولكنه سيميز بين الحلال والحرام وسيجنِّب نفسه الوقوع فيما لا يرضي الله، لأن هذه المهن في نهاية المطاف هي ضمن حاجة المجتمعات (قال: فقال: يا رسول الله، ومن السبّاء؟) أو السياء (قال: الذي يبيع الأكفان ويتمنى موتَ أمّتي) لأن زيادة رزقه تعتمد على زيادة عدد الموتى (والمولود مِن أمتي أحبُّ إليّ مما طلعت عليه الشمس. وأما الصايغ فإنه يعالج غَبن أمتي) أي يتلاعب في الذهب والفضة ويغش في ذلك (وأما القصاب فإنه يذبح حتى تذهب الرحمة من قلبه، وأما الحناط) أي الذي يبيع الحنطة للناس وهي المادة الغذائية الرئيسة (فإنه يحتكر الطعام على أمتي، ولأن يلقى اللهُ العبدَ سارقاً أحبُّ إليَّ من أن يلقاه قد احتكر الطعام أربعين يوماً. وأما النخّاس) وهو الذي يبيع العبيد (فإنه أتاني جبرئيل، فقال: يا محمد إن شرار أمتك الذين يبيعون الناس).
ـ بهذه الحساسية يتعامل الإسلام مع مصير الأطفال والمراهقين.. وبهذه الحساسية يُنظر إلى المهن التي يمكن أن يمتهنها الإنسان ولربما يكون لها مردود سلبي على روحية المسلم وأخلاقه ودينه أو سمعته أو على الناس والمجتمع.. فكيف بغسل أدمغتهم وتوظيفهم في العلميات الإرهابية؟
ـ في المنتدى الثاني لمستقبل أمن دول مجلس التعاون الخليجي الذي أقيم في أبوظبي قبل أشهر، أشار البروفيسور ثيو فاريل رئيس دائرة علوم الحرب في جامعة لندن كنجز كولج البريطانية إلى أن (الهدف من الحروب في السابق كان واضحاً، وهو تدمير القدرة الدفاعية والهجومية للعدو، ولكن الحرب الحالية الموجهة ضد الجماعات الإرهابية الهدف منها هو كسب العقول والفكر).
ـ ومع كل المعطيات السابقة، ما زالت وزارة التربية عندنا تكابر بخصوص احتواء بعض مناهج التربية الإسلامية لمضامين تكفيرية تزرع الكراهية في نفوس الصِّبية والمراهقين، وتؤجج روح الطائفية، وتحرّض ـ بشكل غير مباشر ـ ضد أبناء الوطن الواحد ومؤسساته التشريعية والقانونية، على الرغم من اعترافها المسبق بذلك، ووعودها باتخاذ الإجراءات التصحيحة اللازمة، إلا أنها سرعان ما تراجعت تحت ضغط التهديد بالاستجوابات البرلمانية، رافعةً الراية البيضاء لمن لبسوا الإسلام لُبسَ الفرو مقلوباً، وحجّموا الأوطان بحجم عقولهم، وانتماءاهم الحزبية والطائفية.. وما زالت وزارة الأوقاف تُؤطِّر نفسَها في إطار مذهبي أحادي، وتُحجِم عن الانفتاح على الجميع في قضاياهم التي تَمُسُّ الفكر والشريعة، وهي إذا ما أرادت أن تطرق هذا الباب، كانت مسألة الرقابة على المساجد أوّل همومها وشغلها الشاغل في الوقت الذي ينبغي فيه أن تفكّر في كيفية مدِّ جسور الثقة، وبناء علاقة متينة قائمة على أساس احترام التنوّع واعتباره مكسباً لإثراء الفكر وتنمية المجتمع ومحاربة التطرف.. وما زالت وزارة الإعلام تتعامل مع الفكر المتطرف والتكفيري من خلال ردود الفعل الآنية والمعالجات السطحية والعاطفية، دون أن يجد المواطن أية خطة إعلامية واضحة المعالم تعمل إلى جانب وزارتي التربية والأوقاف في اتجاه استحكام مواد الدستور والتي تنص على أن العدل والحرية والمساواة دعامات المجتمع، والتعاون والتراحم صلة وثقى بين المواطنين، وعلى أن تصون الدولة دعامات المجتمع وتكفل الأمن والطمأنينة وتكافؤ الفرص للمواطنين.