خطبة الجمعة 15 رجب 1437: الشيخ علي حسن : الخطبة الثانية: شهيد يتحدث عن شهيد


ـ تحدثت في الأسبوع الماضي عن مفهوم البراغماتية، والإشكال الذي طُرح بخصوص عدم تحلي الإمام علي(ع) بالبراغماتية التي تمكّنه من توظيف الظروف التي عاشها لتوطيد حكمه، على خلاف ما كان عليه النبي(ص).
ـ خاصة وأننا لو عدنا إلى القواعد الفقهية لوجدنا فيها ما يساعد على التعاطي بمرونة مع مقترحات الذين أرادوا من الإمام الإغداق على كبار الشخصيات وإيكال الوظائف الكبرى إليهم أو إقرارهم عليها مع التغاضي عن تجاوزاتهم الإدارية والمالية مرحلياً إلى أن تستتب الأمور، حتى إذا استمكن قام بإصلاح المعوج وعمل بمقتضى العدل.
ـ ففي موضوع التزاحم، الفقه يقول: بأنه إذا توقف واجب أهم على مقدمة محرمة، فلا بد من الحفاظ على ذلك الواجب الأهم، ومثال ذلك ما إذا توقف إنقاذ نفس محترمة من الغرق على اجتياز أرض لم يرضَ صاحبها باجتيازها، فلا بد من اجتيازها، لأن النتيجة أهم من هذه المقدمة.
ـ كما فعل النبي حين اجتاز وأصحابه بستان مربع بن قيظى (وكان من المنافقين) في طريقهم إلى أُحُد لمواجهة جيش المشركين، حيث امتنع مربع عن السماح لهم بالاجتياز، وما كان من سبيل سوى ذلك، فأقر النبي الاجتياز عبر البستان على الرغم من رفض مربع الذي غضب إلى درجة أنه حثا التراب في وجه النبي(ص)!
ـ فلماذا إذاً لم يطبق الإمام علي (ع) هذه القاعدة، ليساعده ذلك في إقامة حكومة الله على الأرض؟
ـ وقد رددت في تلك الخطبة على هذا الإشكال بإيجاز، واقترح عليّ بعض الأحبة أن تكون لي وقفة مجددة مع هذا الموضوع من خلال ما عرضه الشهيد السيد محمد باقر الصدر في كتابه (أهل البيت تعدد أدوار ووحدة هدف) حيث تعرّض لمناقشة ذات الإشكال، ورد عليه في أربعة نقاط ألخّصها كالتالي:
ـ النقطة الأولى: أراد الإمام علي(ع) أن يرسّخ قاعدَةَ سلطانه في العراق، وكان شعب العراق مرتبطاً روحياً وعاطفياً مع الإمام ولكنه ما كان يعي رسالته وعياً حقيقياً كاملاً ولهذا كان الإمام بحاجة إلى أن يبني تلك الطليعة العقائدية ليكونوا الأمناء على الرسالة... ولكن هل يمكن تحقيق ذلك في جو من المساومات وأنصاف الحلول؟
ـ تلك المساومات وأنصاف الحلول ما كانت لتخلق أشخاصاً مثل أبي ذر وعمار ولن تبني روحية الجيش العقائدي الواعي والرسالي الذي يؤمن بأن المعركة للأهداف الكبيرة التي هي أكبر من الذات.
ـ ولو أقدم الإمام على تلك المساومات لشكّلت نكسة بالنسبة إلى عملية التربية لهذا الجيش العقائدي.
ـ النقطة الثانية: لم يأت الإمام إلى الحكم في ظروف اعتيادية، بل في أعقاب ثورة، وفي لحظة انفجار عاطفي هائل... وماذا ينتظر القائد الرسالي غير لحظة ارتفاع عاطفي في حياة أمة، لكي يستثمر هذه اللحظة في سبيل إعادة هذه الأمة إلى سيرها الطبيعي؟
ـ المزاج النفسي والروحي وقتئذ للمسلمين لم يكن ذاك المزاج الاعتيادي الهادئ لكي يمشي حسب مخطط تدريجي، وإنما كان هو المزاج الثوري الذي ارتفع إلى مستوى قتل الحاكم والإطاحة به، ولا بد لمن يستلم زمام المسؤولية في مثل هذه اللحظة أن يرسّخ المضمون العاطفي النفسي عن طريق هذه الإجراءات الثورية التي قام بها الإمام (ع).
ـ ولو أبقى الإمامُ علي(ع) الباطلَ مؤقتاً وسكت عن الفساد، إذاً لهدأت العاصفة ولانكمش هذا التيار العاطفي النفسي، وحينها لن يكون بمقدوره أن يقوم بمثل هذه الإجراءات.
ـ النقطة الثالثة: كان الإمام(ع) حريصاً على أن تدرك الأمة أن واقع المعركة بينه وبين خصومه ليست معركة بين شخصين.. بين قائدين.. بين قبيلتين.. وإنما هي معركة بين الإسلام والجاهلية.. كان حريصاً على أن يفهم الناس أن واقع المعركة الآن كواقع المعركة أيام النبي ضد الجاهلية التي حاربته في بدر وأحُد وغيرهما من الغزوات.
ـ وهذا ما دل عليه الحديث النبوي الذي رواه المسلمون بأن علياً سيقاتل على التأويل بعد أن قاتل على التنزيل.
ـ ولو أن الإمام أقر رؤوس الفساد والمخالفات المالية والإدارية والسياسية ـ ولو إلى برهة من الزمن ـ لما كان بإمكانه أن يُقنع الناس برسالية المعركة.
ـ بل إنه مع حرصه هذا عانَى من شك الناس لاحقاً في تلك الرسالية إلى أن استشهد، فما بالنا لو لم يراعِها؟
ـ النقطة الرابعة: ما كان الإمام يتعامل مع الفترة الزمنية القصيرة التي عاشها فقط، فقد كان يحس بأنه قد أدرك المريض وهو في آخر مرضه، وحيث لا ينفع العلاج، ولكنه كان يفكر في أبعاد أطول وأوسع للمعركة.
ـ الإسلام كان بحاجة إلى أن تُقدَّم له في خضم الانحراف بين يدي الأمة أطروحة واضحة صريحة نقية لا شائبة فيها ولا غموض، لا التواء فيها ولا تعقيد، لا مساومة فيها ولا نفاق.. ليقال للأجيال: هذا هو خط الإسلام.
ـ لقد بقي الإمام علي (ع) صامداً حتى خرَّ صريعاً على يد شخص من هذه الأمة التي ضحى في سبيلها.. خرَّ صريعاً في المسجد فقال: فزت ورب الكعبة... لو كان عليٌّ قد عمل للدنيا لما كان صادقاً في هذا النداء، ولكان أتعس إنسان، إذ على أكتاف تضحياته قام بناء دولة الإسلام على عهد النبي، فما الذي ناله بالمقاييس الدنيوية؟ لا شيء يُذكر.. ولكنه كان صادقاً في ندائه (فزت ورب الكعبة) كما كان أسعد إنسان، إذ عاش للرسالة، وما عاش للدنيا ولا لمكاسبه الشخصية.. وهكذا يجب أن نستشعر دائماً أن السعادة في عمل العامل لا تنبع من المكاسب التي تعود إليه نتيجة لهذا العمل.. وإنما رضى الله سبحانه وتعالى وحقانية العمل، وحينئذ سوف نكون سعداء، سواء أثّر عملُنا أو لم يؤثر، سواء قدّر الناس عملَنا أم لم يقدروا.. سوف نذهب الله تعالى ونحن سعداء لأننا أدّينا واجبنا، ووضعناه بين يدي مَن لا يُغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها.