خطبة الجمعة 8 رجب 1437: الشيخ علي حسن : الخطبة الأولى: من نهج الإمام علي (ع)


ـ في شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد عن زرارة بن أعين قال: (قيل لجعفر بن محمد "ع": إنّ قوماً ها هنا ينتقصون علياً "ع" ! قال: بم ينتقصونه لا أبا لهم ؟! وهل فيه موضِعُ نقيصة ؟! والله ما عَرَض لعليّ أمران قط كلاهُما لله طاعة إلا عمل بأشَدِّهما وأشَقِّهما عليه) فمع أنّ كلا العملين فيهما مرضاة لله، إلاّ أنّ الإمام كان يختار الأشقّ؛ رغبةً في العطاء الأجزل من الله.. وقد روي أنه سئل النبي (ص) عن أفضل الأعمال، فقال: أحمزُها.. أي أشدها.
(ولقد كان يعمل العمل كأنه قائم بين الجنة والنار، ينظر إلى ثواب هؤلاء فيعمل له، وينظر إلى عقاب هؤلاء فيعمل له) أي كأنَّ الآخرة ماثلة أمامَه، وقد قال تعالى: (كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ، لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ)[التكاثر:5-6] أي لو علمتم الآن علماً مطابقاً للواقع ، لعلمتم أمراً عظيماً، ولأدركتم بما لا شك فيه ولا ريب بشاعة ما أنتم عليه.. وهذا يعني أن على المؤمن أن يفعّل معارفَه وإدراكاتِه حول الآخرة بهذا المستوى.
ـ وهذه واحدة من أهم محفِّزات الاستقامة في الحياة.. فالدنيا ومشاغلها تخلق حالة من الضبابية في صورة الآخرة، وقد تتطور إلى حالة من النسيان والإهمال لشؤون ذلك العالم الذي خُلقنا من أجله، فننشغل بكل ما له علاقة بهذه الحياة القصيرة والمؤقتة، ونتشاغل عن كل ما له علاقة بتلك الحياة المديدة والخالدة، فأي جهل هذا؟ وأية خسارة هذه؟
(وإنْ كان ليقوم إلى الصلاة فإذا قال: "وجهتُ وجهيَ" تغيَّر لونُه، حتى يُعرف ذلك في وجهه) في حالةٍ من الخشوع والإقبال على الله والشعور الحقيقي بأنه بين يدي الله تعالى، وهو لم يدخل إلى الصلاة بعدُ.
(ولقد أعتق ألفَ عبدٍ من كدِّ يده، كلٌّ منهم يَعرق فيه جبينُه) أي كان يكدح في كسبه هذا، ولم يكن مجرد امتلاك للمال من خلال جهدٍ بذله العمال والرقيق في ممتلكاته (وتَحفِي فيه كفُّه) يتقشر جِلدُ كفِّه من شدة العمل بأدوات الحفر والزراعة والحصاد وغير ذلك.
(ولقد بُشِّر بعينٍ نبَعَت في مالِه مثلَ عُنُقِ الجَزور) أي تفجر الماء منها قوياً ( فقال: بَشِّر الوارث بشِّر) ولعل الأصح كما في نص آخر "بشر الوارث، بشّر الوارث" يكررها.. ولكن من الوارث هنا؟
(ثم جعلها صدقة على الفقراء والمساكين وابن السبيل إلى أن يرث اللهُ الأرض ومَن عليها، ليصرف اللهُ النارَ عن وجهِه، ويصرفَ وجهَه عن النار) وكأنه يقول لا تبشرني أنا، فأنا لا حاجة لي في الثراء المتحقق من هذا المال من وراء محاصيل الزراعة والرعي، بل بشّر المحتاجين الذين سيكون هذا الماء وقفاً عليهم، فهم الذين سيرثون ويحصلون على فائدة هذا الماء.
ـ وهذه موعظة عملية لنا.. عندما يحصل أحدنا على (بونس) آخر العام.. عندما يتحقق لنا ربح استثنائي من وراء صفقة تجارية.. وأمثال ذلك.. هل تتوجه أذهاننا بدءً إلى مكاتب السفر والسياحة.. والمعارض العقارية وأمثال ذلك.. أم نفكر بدايةً كيف نوظف ولو جزءً يسيراً من هذه النعمة العارضة لنعمّر بها آخرتَنا؟
ـ وإنما كان يتعامل الإمام مع المال بهذه الصورة لأنه عرف الحقيقةَ كما هي.. في شرح النهج لابن أبي الحديد عن: (ضِرَارِ بْنِ ضَمْرَةَ اَلضَّابِيِّ حَمْزَةَ اَلضَّبَائِيِّ عِنْدَ دُخُولِهِ عَلَى مُعَاوِيَةَ وَ مَسْأَلَتِهِ لَهُ عَنْ أَمِيرِ اَلْمُؤْمِنِينَ "ع" قَالَ: فَأَشْهَدُ لَقَدْ رَأَيْتُهُ فِي بَعْضِ مَوَاقِفِهِ وَقَدْ أَرْخَى اَللَّيْلُ سُدُولَهُ، وَهُوَ قَائِمٌ فِي مِحْرَابِهِ، قَابِضٌ عَلَى لِحْيَتِهِ، يَتَمَلْمَلُ تَمَلْمُلَ اَلسَّلِيمِ، وَيَبْكِي بُكَاءَ اَلْحَزِينِ، وَهُوَ يَقُولُ: يَا دُنْيَا! يَا دُنْيَا! إِلَيْكِ عَنِّي. أَ بِي تَعَرَّضْتِ؟ أَمْ إِلَيَّ تَشَوَّفْتِ؟ لاَ حَانَ حِينُكِ. هَيْهَاتَ، غُرِّي غَيْرِي، لاَ حَاجَةَ لِي فِيكِ، قَدْ طَلَّقْتُكِ ثَلاَثاً لاَ رَجْعَةَ فِيهَا، فَعَيْشُكِ قَصِيرٌ، وخَطَرُكِ يَسِيرٌ، وَأَمَلُكِ حَقِيرٌ. آهٍ مِنْ قِلَّةِ اَلزَّادِ وَطُولِ اَلطَّرِيقِ وَبُعْدِ اَلسَّفَرِ وَعَظِيمِ اَلْمَوْرِدِ).
ـ نسأل الله تعالى أن يجعلنا من المهتدين بهداه، والمستنين بسنته، والسائرين على نهجه، وسَعُد مَن كان ولياً لعليٍّ حقاً حقاً.