خطبة الجمعة 1 رجب 1437: الشيخ علي حسن : الخطبة الثانية: الدين والحروب


ـ قال تعالى: (وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ) [الروم:36] ، وقال عزوجل: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) [الروم:41].
ـ من الإشكالات التي يطرحها الملحدون على شبابنا قولهم أن الدين أصل كل الشرور في الحياة.
ـ ويضربون لذلك مثل الحروب التي عانت وتعاني منها البشرية، فيقولون: لقد أثبت التاريخ القديم والمعاصر أنك كلما التفتّ إلى حرب ودمار وقتل واستباحة، وجدت أن الدين يقف وراءه.
ـ وقد تركَت هذه الحروب آثارها المدمرة لأزمان طويلة على البشر وعلى المادة، وخلقت أجواء من الكراهية الدفينة، وغرست بذور حروب مستقبلية لا تقلّ عنفاً ولا امتداداً عن سابقاتها.
ـ ويقول هؤلاء أن الإيمان بقداسة المتبنيات الدينية والتعصب لها، هي التي تدفع المتدينين إلى السعي لإلغاء الآخر، وأن هذا الإلغاء يأخذ صوراً متعددة من بينها محوه من الوجود، وبذلك يتحول المؤمن بالدين إلى شخصية عدوانية ضد الإنسان الآخر (الكافر)، ويترجم ذلك من خلال صور متعددة من بينها الحروب.. وما يجري في العالم الإسلامي ومن قبل الجماعات التكفيرية اليوم خير دليل.
ـ وحتى لو كان الأمر مجرد استغلال للشعار الديني، وأن منطلق الحرب في واقعه ليس هو الدين، ولكنه على كل حال أعطى ثمرته في إذكاء الحرب وتجييش الناس.. ولهذا يقولون: لابد من إلغاء الدين من حياة الإنسان لتستطيع الإنسانية أن تحصل على السلام... والجواب عن هذا في نقاط:
ـ أولاً: أن هذا التعميم في كون منطلق كل الحروب أو أغلبها هو الدين كلام لا يمت إلى الواقع بصلة.. فكثير من الحروب التاريخية القديمة كانت حروباً على السلطة والتوسع من قبل الملوك والأباطرة والدول المختلفة، وحروباً ذات خلفيات عرقية وقومية، ومثلها الحروب في عصر ما يسمى بالتنوير، والحروب الاستعمارية الحديثة، والحربان العالميتان، وغير ذلك.
ـ وقد نتج من دمار وآثار الحربين العالميتين فقط ما يساوي كل نتائج حروب العهود التاريخية المتقدمة.
ـ نعم، لا ننكر وجود الحروب ذات الخلفية الدينية، والحروب التي يتم فيها توظيف الدين، كما قد يكون الدين حاضراً لما فيه من أبعاد غيبية يؤمن بها المحاربون، فيستعينون بها طلباً للنصرة أو الحفظ من الموت وأمثال ذلك.. فهل هذا يستدعي إلغاء الدين؟
ـ إذا كان الجواب بنعم فهذا سيدفعنا للمطالبة بإلغاء كل مسببات الحروب، ومن بينها التملك والحدود السياسية بين الدول، وأنظمة الحكم، والوطنية، وغير ذلك من عناوين دفعت ـ وما زالت تدفع ـ نحو الكثير من الحروب.
ـ ثانياً: إذا افترضنا أن الدين كان وراء كل أو أغلب الحروب، فهل هذا يعني أنه شيء فاسد؟ أليس الرغبة في تحقيق العدالة، والحرية، والقضاء على الفساد، والمساواة بين الناس، ورد العدوان، ورفع الظلامات، وأمثال ذلك كانت سبباً لوقوع الإنسانية في الكثير من المآسي من خلال مجريات أحداث الانتفاضات، والاحتجاجات، والثورات، وما يستتبعها من قتل، واعتقالات، وتعذيب، وهجرة، وتهجير قسري، واستباحة للحرمات، ونهب الممتلكات؟ فهل يقول أحد بأن تلك العناوين أشياء فاسدة؟
ـ ثالثاً: هل يزعم هؤلاء أن إلغاء الدين سيحقق السلم العالمي؟ إذا كان الجواب مثبتاً، فإننا نقول لهم إنكم: إما أن تكونوا واهمين، أو معاندين، أو لا تفقهون في شؤون الحياة والإنسان شيئاً.
ـ فالطبيعة الإنسانية تنزع إلى التملك والسيطرة وحب الذات والتعصب للمتبنيات، ومادامت هذه العناصر حاضرة، وما دام هناك تزاحم بين الناس، فلابد وأن يحضر الصراع، ومن صوره الحروب.
ـ رابعاً: الدين ـ لاسيما الإسلام ـ ألغى الفروق العرقية والقومية والجغرافية، وجرّم التفاضل على أساسها، ونبذ التعصب الجاهلي، واعتبر أن الأساس الذي يجب أن يحكم العلاقات الإنسانية هو التعارف والتكامل: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّـهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّـهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) [الحجرات:13]، فهو على هذا يمثل عاملاً مهماً في تجفيف منابع الحرب وإلغاء أسبابها.
ـ ووجود الظواهر السلبية عند المتدينين وفي فهم وتطبيق الدين لا تعني بالضرورة فساد الدين، فالإنصاف والتجرد العلمي يستدعي دراسة هذه الأمور من واقع الدين، لا من خلال الاجتهادات البشرية في فهم الدين وتطبيقه.
ـ وعلى العلماء والمفكرين المؤمنين بالدين العمل على إعادة قراءة النصوص وتجديد الاجتهاد في الموارد التي تبيّن وجود خلل فيها، وأنها تدفع ـ فعلاً ـ إلى خلق الصراعات والحروب والعدوان، لأن الله تعالى يقول: (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّـهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّـهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِين)[البقرة:190] وهي بمثابة القاعدة التي تحدد معالم حركة المؤمنين في اتجاه الحرب والسلم.
ـ خامساً: الحروب قد تنشأ من اعتداء الآخر الذي يعمل على العدوان لغرض التمدد والتوسع مثلاً، مما يجعل الحرب ـ عند الطرف المؤمن ـ أمراً وقائياً أو دفاعياً، ولا يمثل عنده تنفيساً لعقد، بل هي علاجٌ للواقع الصعب.
ـ سادساً: ما عادت نظرية العامل الواحد والتي تجعل وراء كل شيء سبباً محدداً، وتفسّر من خلاله الظواهر الإنسانية الكبرى، كالحروب عبر التاريخ، أمراً مقبولاً علمياً، فالعلوم الإنسانية المختلفة كعلم النفس، والاجتماع والتاريخ، والاقتصاد، والسياسة، وغيرها تنحو اليوم منحى تعددية الأسباب في تفسير هذه الظواهر، فلماذا يُرجع هؤلاء سبب الحروب إلى الدين؟
ـ إن الروح الدينية الإسلامية لا تنطلق من فكرة إلغاء الآخر، ولا تحبّذ الحروب، ولا تتشوَّق إلى إراقة الدماء بل هي تدعو إلى الانفتاح عليه، ومحاورته، واستخدام الحكمة، والمنطق، كوسيلة للإقناع.. ومَن يحمل الدين علماً وعملاً ووعياً ومسؤوليةً لن تكون الحربُ خيارَه الأول في التعامل مع الآخر المختلف، بل هي خياره الأخير فيما لو اعتُدي عليه، أو سعى الآخرون لإلغائه، أو استضعافه.