خطبة الجمعة 23 جمادى الآخرة 1437: الشيخ علي حسن : الخطبة الثانية: نور العقل والتفكير


ـ عن الإمام موسى الكاظم(ع) في وصيته لهشام بن الحكم: (إن الله تبارك وتعالى بشَّر أهل العقل والفهمِ في كتابه، فقال: [فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ]... يا هشام : إن الله يقول [إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ] يعني العقل، وقال: [َولَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ]، قال: الفهمَ والعقل]).
ـ ورد في القرآن الكريم الأمر بالتعقل والتدبر والتفكير ـ على ما أحصاه البعض ـ في أكثر من 750 آية.
ـ وقد استعمل القرآن الكريم كلمة (العقل)، لا بصيغة الاسم، بل بمشتقاتِهِ الفعليةَ: (تَعْقِلُونَ 23 مرة، يَعْقِلُونَ 22 مرة، عَقَلُوهُ مرة واحدة، يَعْقِلُهَا مرة واحدة، نَعْقِلُ مرة واحدة).
ـ وجاءت هذه الآيات في سياق الإشادة بفاعلية العقل البشري في النظر والتدبر، والتمييز بين الأضداد؛ كالحق والباطل، والحقيقي والزائف، والخير والشر، واعتبره الإسلام حَكَمًا عدلاً، ومرجعا لا يُختلَف في حجيته.
ـ ولم يأمر الله عباده في كتابه ـ ولا في آية واحدة ـ أن يؤمنوا به، أو بشيء مما هو عنده، أو يسلكوا سبيلاً دون حجة وعلى العمياء... بل حتى في موارد الشرائع والأحكام قدّم العلل والفوائد المرجوة، أو السلبيات المترتبة على المخالفة.
ـ وهكذا نجد أن الأحاديث المروية عن النبي وآله(ع) والتي تناولت مكانة وقيمة العقل، تركز على حقيقة أن أن الله تعالى جعل العقل حجة بينه وبين عباده، كما عن الصادق(ع): (حجة الله على العباد النبي، والحجة فيما بين العباد وبين الله العقل). هذا هو منهج القرآن ومنهج النبي وآله(ع).
ـ ومن هنا فإنَّ قيمة الوعي والتدبر أعلى من مجرد الحفظ أو التدوين، وإن كان لكل فضل.
ـ وفي الخبر عن الأصبغ بن نباتة قال: (لمّا قَدِم أمير المؤمنين الكوفة، صلّى بهم أربعين صباحاً يقرأ بهم: [سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأعْلَىٰ]. قال: فقال المنافقون: لا والله ما يحسن ابنُ أبي طالب أن يقرأ القرآن، ولو أحسن أن يقرأ القرآنَ لقرأ بنا غير هذه السورة .قال: فبلغه ذلك، فقال: ويلٌ لهم، إنّى لأعرف ناسخَه من منسوخِه، ومُحكمَه من متشابهِه، وفصلَه من وصلِه، وحروفَه من معانيه. والله ما مِن حرف نزل على محمّد إلاّ أنّي أعرف فيمن أُنزِل، وفى أي يوم، وفى أي موضع. ويلٌ لهم! .... والله أنا الذى أنزل الله فىَّ: [وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ]، فإنّما كنّا عند رسول الله فيخبرنا بالوحي فأعيه أنا ومَن يعِيه، فإذا خرجنا قالوا: ماذا قال آنفاً؟).
ـ بالطبع، لا نريد التقليل من قيمة الحفظ والتدوين، وهو جهد له تقديره، ولكن الاقتصار على ذلك، وتجميد أو إلغاء دور التعقل والتدبر والتمحيص يفتح باباً خطيراً.
ـ والمدرسة التي اكتفت بحفظ النصوص دون وعي وتدبر ومقارنة وتمحيص، هي المدرسة التي قدّمت لنا في نهاية المطاف أمثال الخوارج... وبتعبير الحديث النبوي: (يَقْرَؤُونَ الْقُرْآنَ لا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ) والنتيجة: (يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ).
ـ هؤلاء سيتخبطون، سواء على المستوى الفكري أو الشرعي أو الأخلاقي أو العملي، وسيتخذون موقفاً باطلاً ومُهلِكاً.. ولعلهم يبررون موقفهم هذا من خلال نص هنا أو نص هناك، وما ذاك إلا بسبب السطحية في التعامل مع النصوص، وعدم إعمال العقل والتدبر فيها.
ـ وهذا ما دفع المفيد إلى الاستنفار حين اطّلع على مؤلَّف عقَدي للصدوق ـ ولم يكن يلتزم هذا المنهج العقلي التحقيقي ـ فقال مبيّناً موطن الخلل في النتائج التي توصل إليها: (السبب في ذلك أنه عمل على ظواهر الأحاديث المختلفة، ولم يكن ممن يرى النظر، فيميزَ بين الحق منها والباطل، ويعمل على ما يوجب الحجة، ومَن عوَّل في مذهبه على الأقاويل المختلفة، وتقليد الرواة، كانت حالُه في الضعف ما وصفناه).
ـ وعلاوة على دور العقل والتدبر في تحقيق سلامة الخط، هناك نتيجة أخرى مترتبة تتمثل في تفجير الطاقات الفكرية، والإبداع، والحكمة، والبصيرة، والوعي، وفتح الآفاق المختلفة والجديدة من خلال تلك النصوص.
ـ ولذا عندما نقارن بين أهل البيت وبين الآخرين، نجد لديهم ذلك التراث الفكري والحِكَمي الضخم دون سواهم.
ـ وما زال نهج البلاغة من جهة، والصحيفة السجادية من جهة أخرى، كنموذجين مختلفين من عطاءات أهل البيت(ع)، بكل ما فيهما من حكمة، وفكر، وقيم، وأخلاق رائعة، ماثلين أمام الجميع تأكيداً على هذه الحقيقة التي لا يرتاب فيها إلا مكابر معاند... هذا هو العلم.
ـ والسيدة الزهراء(ع) على الرغم من خصوصية وضع الأنثى في المجتمع الذي عاشت فيه، إلا أنها عاشت رحابة القرآن في نصِّه، ومفاهيمه، وأحكامه، وأخلاقه.
ـ ويكفينا أن نطالع الخطبة التي ألقتها بعد وفاة أبيها(ص) في مسجده، ولخّصت فيها معاني الإسلام ومفاهيمه وحاججت القوم في حق زوجها في الحكم بقوة فكرية وبلاغية تعكس وعيَها العميق للقرآن ولسنة رسول الله.
ـ ولنتوقف عند الفقرة التالية لندرك هذه الحقيقة حيث قالت: (وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، كلمة جعل الإخلاص تأويلها، وضمّن القلوب موصولها، وأنار في الفكر معقولها) فهي ليست مسألة كلمات تنطلق من اللسان، بل لابد من أمور:
1ـ مزاوجة ذلك بالعمل والتطبيق الذي يعكس عمق الإيمان بهذه الحقيقة... وما يكشف عن عمق الإيمان بها سوى الإخلاص لله في كل شيء وفي كل خطوة.
2ـ ارتباط ذلك بالحالة الشعورية الوجدانية للقلب، ليكون الاعتراف بالتوحيد نابضاً بالحياة، بعيداً عن الجمود الذي قد يكتنف الفكرة.
3ـ اعتماد ذلك على القناعة، والحجة العقلية، والعمق الفكري، لكي لا يكون الإيمان حالة سطحية مهزوزة قابلة للزوال عند تشكيك المشككين، وتلبيس المُلبسين.
ـ هكذا كانت الزهراء(ع) وهكذا كان الأئمة من أهل البيت(ع) في إعطاء المكانة الكبيرة لدور العقل في الإيمان، وفي فهم الدين، وفي الحياة.. وهكذا ينبغي أن نكون، لئلا نسلك ذات الطريق التي سلكها الخوارج ومَن هم على شاكلتهم ممن أغلقوا عقولَهم، وعطّلوا تفكيرَهم، فينتهي بنا المطاف بعيداً عن الغاية التي خطَّطْنا للوصول إليها، ونرفض الحق الذي طالما حَلُمنا ووعدنا الله وأنفسَنا والآخرين أن نكون من أنصاره.