خطبة الجمعة 10 جمادى الأولى 1437 : الشيخ علي حسن : الخطبة الثانية: بين الأحاديث الصحيحة ومرجعية القرآن


ـ ذكرت في الأسبوع الماضي أن من الضروري أن نعرض ما وصل إلينا من السيرة النبوية على القرآن الكريم لتقييمها.
ـ والحقيقة أن الأحاديث المتعلقة بالسيرة النبوية ليست الوحيدة التي تحتاج إلى مثل هذا الإجراء المهم، بل ما روي عن النبي(ص) وآله(ع) في كل المجالات، بما في ذلك ما يخص تفسير القرآن، فقد نجد أحياناً بعض أحاديث التفسير تحاول أن تحرف معنى الآية وتتلاعب به بشكل واضح، مما يؤكد أنها لم تصدر عنهم(ع).
ـ وهذا ما دل عليه قول النبي(ص) وقول الأئمة(ع) في أكثر من مورد، من قبيل ما رواه الصادق عن النبي أنه قال: (إن على كل حق حقيقة، وعلى كل صواب نوراً) أي أن ما يدلك على الحق والصواب موجود، فاسع إليه، وما هو إلا القرآن: (فما وافق كتاب الله فخذوه، وما خالف كتاب الله فدعوه).
ـ وعنه (ع) أنه قال: (خطب النبي(ص) بمنى فقال: أيها الناس ما جاءكم عني يوافقُ كتابَ الله فأنا قلتُه، وما جاءكم يخالف كتابَ الله فلم أقلْه).
ـ وبالتالي فقد أصبح المعيار الأساس في تقييم الأحاديث التي وصلتنا أمراً واضحاً ومحدداً، وهذا جانب حيوي ورئيس من مفهوم مرجعية القرآن الكريم في تكوين فكرنا الإسلامي وثقافتنا الدينية.
ـ قد يقال أن صحة أسانيد الأحاديث تُغنينا عن ذلك، فنحن نعلم أن للحديث سند ومَتن، فالسند عبارة عن رواة الحديث، والمتن هو مضمون الحديث، ولكي نقيّم الحديث فلنفحص السند، فإن كان السند تاماً والرواة ثقاة، اعتبرنا أن الحديث صادر عن النبي أو الإمام.
ـ إلا أن هذا الكلام غير تام.. ولكي أختصر الأمر أضع بين أيديكم الحديث التالي الذي يُعتبر صحيحاً من حيث السند بحسب المعايير العلمية المعتمدة، ولننظر هل يمكن تصوّر صدوره عن النبي أو الإمام؟
ـ المثال الأول: في الكافي عن أبان بن تغلب، قال: (سألت أبا عبدالله (ع) عن الأرض على أي شئ هي؟ قال: على الحوت) أي سمكة (قلت: فالحوت على أي شئ هو؟ قال: على الماء. قلت: الماء على أي شئ هو؟ قال: على الصخرة، قلت: فالصخرة على أي شئ هي؟ قال: على قرن ثور أملس. قلت: فعلى أي شئ الثور؟ قال: على الثرى) التراب (قلت: فعلى أي شئ الثرى؟ فقال: هيهات! عند ذلك ضل علم العلماء).
ـ هذا المضمون ورد في عدة من كتب السنة والشيعة من قبيل كتاب العلل لأحمد بن حنبل، والمستدرك على الصحيحين للحاكم النيسابوري، وعلل الشرائع للشيخ الصدوق. وقد انبرى بعض علمائنا ـ كالسيد المرتضى والشيخ المفيد ـ منذ قرابة الألف سنة، وقبل الاكتشافات العلمية الحديثة لرفض مثل هذا الحديث وإن صح سنده.
ـ والطريف عندما تحاول أن تعرف مصدر هذا التصور الطفولي للأرض، تجد أن كل شعب يعكس بيئته في ذلك، فالهنود كانوا يتصورون أن الأرض على صفيحة فضية، محمولة على ظهور مجموعة من الفيلة.. بينما في اليابان تصوروا الأرض على ظهر سمكة كبيرة.. وفي بعض المجتمعات الشرقية على قرن ثور، وأن الزلازل تحدث نتيجة حركة هذه الحيوانات أو انتقال الأرض من قرن إلى آخر! ومن وضع الحديث السابق على لسان الصادق(ع) جمع أكثر من ثقافة وأراح نفسه.
ـ بالطبع البعض يحاول تصحيح المضمون تمسكاً برمزيته، ولكننا عندما نعود إلى القرآن سنجده يقدم مثل هذه الصورة العلمية الرائعة: (وَأَلْقَىٰ فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) [النحل:15]، وهو يستعمل كلمة الأرض في 444 مورداً، خلت من التصاوير الساذجة الواردة في مثل ذلك الحديث.
ـ والمفارقة أن بعض أهل السنة لمز الشيعة لأنهم رووا هذا الحديث، وبعض الشيعة لمزوا أهل السنة لأن هذا الحديث مدوّن في بعض صحاحهم (ورد الخبر 13 مرة في مصادر الشيعة و 9 مرات في مصادر السنة).
ـ المثال الآخر لخبرٍ صحيح السند ولا يمكن قبول مضمونه، بل أمتنع عن قراءة نصه وأكتفي بعرض فكرته، احتراماً للسامعين وإجلالاً للإمام الصادق(ع) الذي نُسب إليه الخبر زوراً، ما جاء في الكافي أن الرجل إذا قارب زوجته ولم يذكر اسم الله شاركه الشيطان في العملية، ولو حملت كان الطفل نتاج ذلك!
ـ وفي تفسير القرطبي عند أهل السنة أن تفسير قوله تعالى مخاطباً إبليس اللعين: (وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ) [الإسراء:64] هو المعنى الذي ذكرناه في الخبر المنسوب للإمام الصادق(ع)!
ـ وأمثال هذه الروايات الصحيحة من حيث السند والمرفوضة من حيث المضمون كثيرة، فكيف تكون كذلك؟
ـ الأسباب متعددة، ومنها ما جاء في قول يونس بن عبد الرحمن إذ سئل: (يا أبا محمد، ما أشدَّك في الحديث وأكثرَ إنكارِك لما يرويه أصحابُنا، فما الذي يحملُك على رد الأحاديث؟ فقال: حدثني هشام بن الحكم أنه سمع أبا عبدالله(ع) يقول: لا تقبلوا علينا حديثاً إلا ما وافق القرآن والسنة، أو تجدون معه شاهداً من أحاديثنا المتقدمة، فإن المغيرة بن سعيد لعنه الله دسّ في كتب أصحاب أبي أحاديث لم يحدِّث بها أبي، فاتقوا الله ولا تقبلوا علينا ما خالف قولَ ربِّنا تعالى وسنةَ نبيِّنا محمد(ص)، فإنا إذا حدثنا قلنا: قال الله عز وجل، وقال رسول الله(ص). قال يونس: وافيتُ العراق فوجدت بها قطعة من أصحاب أبي جعفر(ع) ووجدت أصحاب أبي عبدالله(ع) متوافرين، فسمعت منهم وأخذت كتبَهم فعرضتها من بعدُ على أبي الحسن الرضا(ع) فأنكر منها أحاديث كثيرة أن يكون من أحاديث أبي عبدالله(ع)، وقال لي: إن أبا الخطاب كذب على أبي عبدالله(ع). لعن الله أبا الخطاب. وكذلك أصحاب أبي الخطاب يدسّون هذه الأحاديث إلى يومنا هذا في كتب أصحاب أبي عبدالله(ع)، فلا تقبلوا علينا خلافَ القرآن فإنّا إن تحدَّثنا حدَّثْنا بموافقة القرآن وموافقة السنة).
ـ إننا اليوم أمام تحدٍّ ثقافي كبير يمسُّ إيمانَ شبابِنا بحقّانية الإسلام وارتباطِه بالسماء، ويتعرّض بالتشكيك والتوهين لمنابع الفكر الإسلامي والثقافة الدينية، الأمر الذي يُحمِّل العلماء والمفكرين المسلمين المزيد من المسؤولية تجاه هذا التحدي القديم، المنطلق من جديد بزخَم كبير اعتماداً على الانفتاح المعلوماتي الهائل الذي يشهده عصرنا، ويلزمهم التعامل معه تعاملاً جدياً وبعقلية معاصرة، تمزج الثقافة الإسلامية بالعلم الحديث، لأننا نؤمن إيماناً عميقاً أن الدين الخالص من التأثير البشري لا يمكن أن يتعارض وما ثَبُتَ بالعلم القاطع.. فالدين من عند الله، والوجود بكل تفاصيله وقوانينه هو من خلق الله.. ومع اعتماد القرآن الكريم مرجعاً أصيلاً في تنقية التراث الحديثي ـ دون الاكتفاء بتصحيح أسانيده ـ نكون قد خطونا خطوة كبيرة في الاتجاه الصحيح نحو تقديم الإسلام ـ لأبنائنا وللآخرين ـ نقياً مما علُق به من الشوائب التي مزجت فيه الخرافة بالحقيقة، والباطل بالحق. (إن على كل حق حقيقة، وعلى كل صواب نوراً، فما وافق كتابَ الله فخذوه، وما خالف كتابَ الله فدعوه).