خطبة الجمعة 10 جمادى الأولى 1437 : الشيخ علي حسن : الخطبة الأولى: الزهراء في عليائها


روى الترمذي في سننه من كتاب الفضائل عن حُذيفة, قال: (سَأَلَتْنِي أُمِّي مَتَى عَهْدُكَ؟ ـ تَعْنِي بِالنَّبِيِّ (ص) ـ فَقُلْتُ: مَا لِي بِهِ عَهْدٌ مُنْذُ كَذَا وَكَذَا. فَنَالَتْ مِنِّي, فَقُلْتُ لَهَا: دَعِينِي آتِي النَّبِيَّ (ص), فَأُصَلِّيَ مَعَهُ الْمَغْرِبَ, وَأَسْأَلُهُ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لِي وَلَكِ, فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ (ص), فَصَلَّيْتُ مَعَهُ الْمَغْرِبَ, فَصَلَّى حَتَّى صَلَّى الْعِشَاءَ, ثُمَّ انْفَتَلَ فَتَبِعْتُهُ فَسَمِعَ صَوْتِي, فَقَالَ: مَنْ هَذَا، حُذَيْفَةُ؟ قُلْتُ: نَعَمْ, قَالَ: مَا حَاجَتُكَ, غَفَرَ اللَّهُ لَكَ وَلِأُمِّكَ؟ قَالَ: إِنَّ هَذَا مَلَكٌ, لَمْ يَنْزِلْ الْأَرْضَ قَطُّ قَبْلَ هَذِهِ اللَّيْلَةِ, اسْتَأْذَنَ رَبَّهُ أَنْ يُسَلِّمَ عَلَيَّ, وَيُبَشِّرَنِي بِأَنَّ فَاطِمَةَ سَيِّدَةُ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ, وَأَنَّ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ سَيِّدَا شَبَابِ أَهْلِ الْجَنَّةِ).
ـ سألني أحد المؤمنين ما هذه القيمة العليا للزهراء(ع)؟ هل في الأمر مبالغة أم ماذا؟ ولو استعرضنا كل ما روي لنا من سيرتها(ع) لما وجدنا سوى القليل من المواقف الموزَّعة على العهدين المكي والمدني.. خاصة وأنها رحلت عن الدنيا في ريعان شبابها، ولم يسعفها الزمن.. فأنّى لها هذه المكانة العظيمة؟
والجواب باختصار شديد: هل لأحد إنكار مقام السيدة مريم بنت عمران(ع) وقد قال تعالى: (وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّـهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَىٰ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ)[آل عمران:42].
ـ فما الذي قدّمته مريم البتول كي تنال هذا التكريم الإلهي؟ ما هي مفردات سيرة هذه السيدة العظيمة؟
ـ هل أسست جامعة دينية؟ هل أنشأت مؤسسات رعائية للأيتام؟ هل ألّفت موسوعة؟ هل استشهدت في موقف بطولي؟ كل ذلك لم يحصل.. ومع هذا نالت ذلك التكريم العظيم من الله.. لماذا؟
ـ لأنها مسألة الطهارة الروحية، السمو الأخلاقي التقوى الخالصة التي تمتّعت بها فكان عطاؤها نابعاً من هذا الإخلاص ومحاطاً بهذه الهالة القدسية.
ـ وهكذا الأمر بالنسبة إلى مولاتنا الزهراء(ع).. ففي سنن الترمذي, عن عمر بن أبي سلمة ربيب النبي(ص) قال: (لمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى النَّبِيِّ (ص) ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾ فِي بَيْتِ أُمِّ سَلَمَةَ, فَدَعَا فَاطِمَةَ وَحَسَنًا وَحُسَيْنًا فَجَلَّلَهُمْ بِكِسَاءٍ, وَعَلِيٌّ خَلْفَ ظَهْرِهِ فَجَلَّلَهُ بِكِسَاءٍ, ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ هَؤُلَاءِ أَهْلُ بَيْتِي, فَأَذْهِبْ عَنْهُمْ الرِّجْسَ, وَطَهِّرْهُمْ تَطْهِيرًا, قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: وَأَنَا مَعَهُمْ يَا نَبِيَّ اللَّهِ؟ قَالَ: أَنْتِ عَلَى مَكَانِكِ, وَأَنْتِ عَلَى خَيْرٍ).
ـ إذاً كما وجدنا عنوان الطهارة حاضراً في تكريم مريم البتول، نجده حاضراً في تكريم السيدة الزهراء.. الطهارة الروحية.. السمو الأخلاقي.. التقوى الخالصة.. هالة القداسة التي تحيط بحركات فاطمة وسكناتها، بعبادتها ودعوتها، بدعائها ومناجاتها، برعايتها لصاحب الرسالة أولاً، ثم لصاحب مقام الولاية والإمامة مِن بعده، لتربيتها سبطي النبي فكانا سيدي شباب أهل الجنة.
ـ إن عطاء الإنسان لا يقاس بالزمن، ولا بكثرة الإنجازات، فقد يعيشُ الإنسانُ قرناً من الزمان، ولا يقدّم شيئاً ذا قيمة.. وقد ينجز الكثير إلا أن إنجازاتِه لا بركة فيها ولا خير.. بينما قد يعيش عقدين من الزمان، أو دون ذلك فيخلُدَ ما دامت الحياة.. فلنسعَ أن نكون ممن تخلُد ذِكراهم في طهارة الروح وسمو الأخلاق وصلاح العمل، ولنا في الزهراء فاطمة في مقاماتها الشامخة التي نالتها الأسوة الحسنة والمثل الأعلى.