خطبة الجمعة 15 صفر 1437 : الشيخ علي حسن : الخطبة الثانية: عندما يفتي الجهلاء


ـ قال تعالى في كتابه الكريم: (مِنْ أَجْلِ ذَٰلِكَ كَتَبْنَا عَلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم بَعْدَ ذَٰلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ)[المائدة:32]. تحدثت في الأسبوع الماضي عن جانب من مدلول الآية الشريفة، وقلت في البين أنه لا يحق لأحد سلب حياة الآخرين إلا قصاصاً أو عقاباً لمفسد في الأرض، وأن هذا ليس فعلاً عبثياً، بل يجب أن يتم ضمن قوانين وضوابط محددة، كما لا يحق لكل أحد أن يمارسه.
ـ وقد أثار هذا تساؤلاً: ومن الذي يحدد مفهوم الإفساد في الأرض على المستوى النظري؟ ومن الذي يحدد مَن هو المفسد في الأرض فعلاً وتطبيقاً؟ ومن الذي يملك حق إصدار هذه الأحكام وتنفيذها؟
ـ النصوص الإسلامية حذّرت من الاستهانة بهذا الأمر وتمييعه، ومن ذلك قوله تعالى: (وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّـهُ فَأُولَـٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)[المائدة:45].
ـ وعن النبي (ص): (إن الله لا يقبضُ العلمَ انتزاعاً ينتزعُه من صدور العلماء, ولكن يقبض العلمَ بقبضِ العلماء, حتى إذا لم يُبقِ عالماً، اتَّخذ الناسُ رؤوساً جُهالاً, فسُئلوا, فأفتوا بغير علم, فضَلُّوا وأضلُّوا).
ـ وقد حذّر علماء المسلمين ـ سنة وشيعة ـ من الإفتاء وإصدار الأحكام بغير علم، لأنه تقوّل على الله.
ـ قال ابن القيم: (حرَّم الله سبحانه القولَ عليه بغير علمٍ في الفُتيا والقضاء، وجعله من أعظم المحرمات، بل جعله في المرتبة العليا منها. فقال تعالى {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُوا بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ})[الأعراف:33]).
ـ في الجزء 32 من الموسوعة الفقهية الصادرة عن وزارة الأوقاف الكويتية تحت عنوان (ما يُشترط في المفتي) الشروط التالية: (الإسلام، العقل، البلوغ، العدالة، الاجتهاد) وتحت الشرط الخامس جاء: (قال الشافعي فيما رواه عنه الخطيب: لا يحل لأحد أن يُفتي في دين الله، إلا رجلاً عارفاً بكتاب الله بناسخه ومنسوخه ومحكمه ومتشابهه، وتأويله وتنزيله، ومكيِّه ومدنيِّه، وما أريد به، ويكون بعد ذلك بصيراً بحديث رسول الله (ص)، ويعرف من الحديث مثل ما عرف من القرآن، ويكون بصيراً باللغة، بصيراً بالشعر، وما يحتاج إليه للسنة والقرآن، ويستعمل هذا مع الإنصاف، ويكون مشرفاً على اختلاف أهل الأمصار، وتكون له قريحة بعد هذا) أي بصيرة ووعي وذوق فقهي ولغوي. وأضافت الموسوعة: (ونَقل ابن القيم قريباً من هذا عن الإمام أحمد).
ـ وفي هذا الباب نصوص كثيرة، وتأكيدات مغلّظة من فقهاء المسلمين، وأكتفي بما سبق اختصاراً للوقت.
ـ وأما ما نشاهده اليوم من استهانة وعبَث بهذا الأمر من قبل التكفيريين، على المستوى النظري والتطبيقي، وبعض مشايخ الفضائيات، فلا يمثّل أهلَ السنة بشيء، بل هو مصداق الحديث النبوي السابق.
ـ يتعلم أحدهم وريقات من هنا وهناك، أو يدرس في كلية أو في معهد شرعي لأربع سنوات، ثم يُنصّب نفسه مفتياً وحاكماً شرعياً، يحكم في الدماء والأعراض والممتلكات ومصائر الناس.. فلهم الويل من الله.
ـ وأقدّم مثالاً على كيفية تعامل الفقهاء الحقيقيين مع هذا الأمر.
ـ كتَب الفقيه والمفكر الكبير السيد الشهيد محمد باقر الصدر مذكّرة حول أسس الحكومة الإسلامية كمادة تثقيفية للحركة الإسلامية في العراق، وضمّنها العبارة التالية: (المرتد عن الإسلام سواء كان ملّيّاً أو فطرياً إذا تاب وأناب، فإن الدولة الإسلامية تقبل إسلامه ظاهراً وتعامله كبقية المسلمين).
ـ وعرض هذه المذكرة على المرجع الراحل السيد الخوئي طالباً منه إبداء الرأي والملاحظات، فسجّل بعض الملاحظات من بينها (استتابة المرتد الفطري)، فإجماع فقهاء الشيعة على عدم الاستتابة.. فناقشه الشهيد الصدر، وقدّم مثال الشيوعيين في العراق، فهم بحسب العرف مصداق عملي على الردة الفطرية، فهل يُقام عليهم الحد؟ وخلص الشهيد الصدر إلى أن هذا الزمن (زمن شبهة) بالاصطلاح الفقهي حيث تكثر الشبهات وتنتشر التشكيكات ضد الإسلام بقوة، مع ضعف المسلمين عن التصدي لها على مستوى الوسائل والمعالجات فلا يمكن والحال هذه مساواة المرتد الفطري في هذا الزمن بزمن قوة الإسلام أو حضور النبي(ص) مثلاً.. فكيف نرفض استتابته.. وفعلاً وافقه السيد الخوئي على ذلك كما هو منقول في بعض الكتب.
ـ وبالتالي فإن مسألة الإفتاء والقضاء وإصدار الأحكام ليست مسألة سهلة ولا عبثية ولا هي في متناول أي أحد ولها من الشروط والموازين والآداب ما يجعل الذي يحمل في نفسه شيئاً من التقوى يخاف التعدي عليها.
ـ كما أن تطبيق الحدود مسألة حساسة ومرهونة بالظروف وليست مسألة تعبدية محضة ليقال بضرورة الإتيان بها على كل حال، بلا لابد من ملاحظة العناوين الثانوية، وحتى التداعيات المترتبة عليها.. فهل يستطيع الجهال وأنصاف المتعلمين إتقانها على المستوى النظري والتطبيقي؟ ولنأخذ المثالين التاليين:
1ـ الطوسي في (الخلاف): (روى أصحابنا أن السارق إذا سرق عام المجاعة لا قطع، ولم يُفصّلوا) ثم نقل قول الشافعي بالتفصيل بين حالتي توفر الغذاء مع غلاء السعر وعدمه، ثم استدل بحديث علي(ع): (لا قطع في عام مجاعة. وروي ذلك عن عمر أنه قال: لا قطع في عام مجاعة، ولا قطع في عام السِّنَة. ولم يفصّلوا).
2ـ السيد الخوئي: (لا تجوز إقامة الحد على أحد في أرض العدو، إذا خيف أن تأخذه الحميّة ويلحق بالعدو) مستنداً في ذلك إلى المروي عن علي(ع).
ـ لاحظ كيف أن الخوف من ارتداد فرد أو التحاقه بصف العدو يدفع إلى تجميد إقامة الحد عليه... فماذا لو كان ذلك يؤدي إلى ردات فعل أوسع عند المسلمين نتيجة الشبهات المثارة والدعاية المضادة للإسلام وضعف الثقافة الإسلامية عندهم؟ وماذا لو كان هذا من أسباب تشويه صورة الإسلام وضعف الإقبال عليه؟
ـ لقد عرف المسلمون ـ على اختلاف مذاهبهم وطوال التاريخ ـ أن شؤون الإفتاء والقضاء وإصدار الأحكام ليست من الشؤون المتيسرة لكل أحد، وأنها تتطلب في صاحبها مستويات عالية جداً من التقوى والعدالة والإحاطة بالعلوم الشرعية ومقدماتها المختلفة، علاوة على الحكمة والشجاعة والبصيرة بأمور الزمان مع الاحتياط في الدماء والأعراض والممتلكات.. وأما ما يقوم به اليوم منظِّرو التكفير والإرهاب على مستوى الإفتاء والتطبيق فلا صلة له بالاجتهاد والفقه الإسلامي وإقامة الحدود الشرعية والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بل هي منطلقة من الجهل واتِّباعِ الهوى وطاعة الشيطان، ومن العقد النفسية التي تنعكس من خلال وحشيتهم التي يقل لها نظير في التاريخ البشري.. ومسؤولية الحواضر العلمية ـ لاسيما عند إخواننا من أهل السنة ـ بذل المزيد من الجهد لترسيخ المفاهيم الصحيحة ذات العلاقة بشؤون الإفتاء والقضاء وتطبيقاتهما بما يفوّت على الأدعياء فرصةَ خداع عامة الناس وتشويه صورة الإسلام.