خطبة الجمعة 10 محرم 1437 : الشيخ علي حسن : الخطبة الثانية: الذكاء العاطفي

(وَسَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ، الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّـهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) [آل عمران:133-134].
ـ الذكاء العاطفي من المصطلحات الحديثة، ويعرَّف بأنه: (مقدرة الشخص على إدارة عواطفه والتحكم فيها وانتقاء الأفضل منها والتي تتناسب مع المواقف التي يتعرض لها الإنسان).
ـ أي أن الذكاء العاطفي لا يقف عند حد إدارتك لعواطفك، بل وقدرتك أيضاً على معرفة عواطف الآخرين، بحيث تستطيع التعبير عن انفعالاتك بما يتناسب مع الموقف والحالة التي تتواجد فيها أو تُفرَض عليك.
ـ من أبرز الصفات التي تطغى على الذين يتمتعون بدرجة عالية من الذكاء العاطفي هي قدرتهم على:
1ـ تفهُّم أوضاع الآخرين والتعاطف معهم عند وقوعهم في المآزق أو عندما تحلُّ عليهم المصائب.
2ـ تكوين الصداقات المتعددة والإبقاء عليها.
3ـ القدرة على فضِّ النزاعات والخلافات التي تحصل بينهم وبين الآخرين، أو تلك التي تحدث فيما بين الآخرين، وبمجهود قليل.
4ـ القدرة على التعبير عن ما يختلجهم من مشاعر، حتى وإن كانت مشاعر مختلطة.
5ـ مواجهة المشاكل بثقة عالية، والتكيف مع كافة المواقف الاجتماعية التي يتعاملون بها.
ـ وهذا يعني أن الذكاء العاطفي يؤدي إلى الذكاء الاجتماعي، فالذكاء الاجتماعي يعني قدرتك على إدارة علاقتك مع الآخرين، حيث تضع نفسك مكانه، ومن ثم تفكّر كيف تحب أن تُعامَل، وكيف تحب أن يتفاعل معك الآخر، وكيف تحب أن تُحل مشكلتك، وعلى أساس هذه النتيجة تتصرف معه.
ـ ومن هنا فإن ما جاء في الآية من قرار الإنفاق لإعانة الآخرين في مواجهة مصاعبهم وكظم الغيظ والعفو هو نوع من أنواع الذكاء العاطفي والاجتماعي، كونه يشكل موقفاً إيجابياً في التعاطي مع آلام البعض ومشاعرهم بصورة عملية، والتعامل السليم تجاه أذى البعض الآخر وحماقاتهم.
ـ ومن المنظور الإسلامي فإن نتيجة ذلك لا تتوقف عند حد الأثر الدنيوي، بل تتعداها إلى الأثر الأخروي.
ـ وليس بالضرورة أن يكون المتفوق في التحصيل العلمي مثلاً صاحب ذكاء عاطفي، فقد تجد شخصاً عبقرياً في الرياضيات والفيزياء، لكنه دائماً ما يسيء تقدير المواقف الاجتماعية، ولا يتفهم عواطف الآخرين، ويفشل في الحفاظ على صداقاته.. كل ذلك بسبب عدم اتصافه بالذكاء العاطفي.
ـ وقلة هم الذين ينجحون في الجمع بين الأمرين، وحينذاك يكون لهم تميزاً وتأثيراً وحضوراً قوياً في الساحة.
ـ ومن الذكاء العاطفي أن يمتلك الإنسان القدرة على التحمل في مواجهة المصاعب حين تتراكم عليه بحيث يتغلب على الصورة النمطية التالية: (إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا، إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا) [المعارج:19-20].
ـ فيسيطر على عواطفه ويوظّف طاقاته في الاتجاه الصحيح لحل مشكلته، أو تحقيق النتيجة المطلوبة، أو مساعدة الغير على ذلك.
ـ وقد التفت الأديب الراحل جورج جرداق إلى هذا الأمر وهو يكتب عن ذكاء وعبقرية أمير المؤمنين(ع) في جانب من كتابه (روائع نهج البلاغة)، حيث يعرّج بعد ذلك على الذكاء العاطفي فيقول: (ومن مظاهر الذكاء الضابط القوي في نهج البلاغة تلك الحدود التي كان عليٌّ يضبط بها عواطف الحزن العميق إذ تهيج في نفسه وتعصف. فإن عاطفته الشديدة ما تكاد تُغرقه في محيط من الأحزان والكآبات البعيدة حتى يبرز سلطان العقل في جلاء ومضاء، فإذا هو آمر مُطاع).
ـ وهكذا نجد ابنه الحسين(ع)، في الموقف الصعب الذي لا نظير له.
ـ فحولَه أجساد أهل بيته وأحبابه وأنصاره.. أي شباب كانوا وأي شيبة؟ خيرةُ الناس وعبادُ أهل الأرض.
ـ منهم مَن يذكّره بجده رسولِ الله خَلْقاً وخُلُقاً.. ومنهم مَن يذكّره بأبيه عليٍّ شجاعةً وبأساً.. ومنهم مَن كان وديعةَ أخيه الحسن. كيف يمكن لأب أن يتحمل مشهد مقتل ابنه بالصورة التي استشهد فيها علي الأكبر؟ كيف يمكن لأب أن يصبر على نحر طفله الرضيع بين يديه ثم ينهض ليقاتل بكل بأس؟ كيف يمكن لأخ أن يفقد أخاً كالعباس قمر بني هاشم ويراه مقطّع اليدين مفلوق الهامة ثم يشد على القوم مذكِّراً ببطولات أبيه وشجاعته؟ لو أن كل واحدةٍ من هذه تَفرّد بها أحدُنا ومات كمداً لما كان بملوم، فكيف بالحسين وقد اجتمعت عليه كل هذه الشدائد؟
ولكنه سبطُ رسولِ الله وابنُ أميرِ المؤمنين وسيدُ شبابِ أهل الجنة.. وحريٌّ بمن كان هكذا أن يمتلك من ذكاء العاطفة ما يسيطر به على نفسه ويقودها في تلك اللحظات الحاسمة لمواجهة أعدائه بكل شجاعة وبأس وقوة، وقد جاء في الطبقات الكبرى لابن سعد أنه: (لما قُتل أصحابُه وأهلُ بيته، بقي الحسين عامة النهار لا يُقدِم عليه أحد إلا انصرف، حتى أحاطت به الرجالة. فما رأينا مكثوراً قط أربطَ جأشاً منه. إنْ كان ليقاتلُهم قتالَ الفارس الشجاع. وإن كان ليشد عليهم فينكشفون عنه انكشاف المِعزى إذا شد فيها الأسد. فمكث ملياً من النهار والناس يتدافعونه ويكرهون الإقدام عليه. فصاح بهم شمر بن ذي الجوشن: ثكلتكم أمهاتكم ماذا تنتظرون به؟ أقدِموا عليه. فكان أول من انتهى إليه زرعةُ بنُ شُريك التميمي، فضرب كتفَه اليسرى. وضربه حسينٌ على عاتقه فصرعه. وبرز له سنان بن أنس النخعي فطعنه في ترقوته. ثم انتزع الرمح فطعنه في بواني صدره. فخر الحسين صريعاً..) إنا لله وإنا إليه راجعون وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون والعاقبة للمتقين.