خطبة الجمعة 3 محرم 1437 : الشيخ علي حسن : الخطبة الثانية: قشتان لا تُنجيان


ـ ذكرتُ في الخطبة الأولى نموذج التابعين الذين يُسلِمون زمام أمورهم بيد غيرهم ويجعلون أنفسهم في موقع التبع فيرتكبون ما يرتكبون من أفعال قبيحة أو أعمال إجرامية استجابةً للمتبوعين، وفي يوم القيامة يتورط هؤلاء التابعون فيتمسكون بقشتين:
ـ القشة الأولى: قشة المتبوعين في الدنيا من أصحاب القوة والنفوذ. والقرآن يحكي عن هذا المشهد في أكثر من موقع، من بينها: (وَبَرَزُوا لِلَّـهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّـهِ مِن شَيْءٍ) [إبراهيم:21].
ـ لقد كنتم تتوسطون لنا أحياناً في الدنيا إذ كانت لكم وجاهة وقوة...
ـ وكنتم تُلقون إلينا ببعض فتات موائدكم إذ كنتم تملكون المال الوفير...
ـ ثم نحن جماعتكم، وفعلنا ما فعلنا في الدنيا من جرائم وموبقات من أجلكم...
ـ ولولا ذلك لما بسطتم نفوذَكم وحقَّقتم مطامعكم، فهلاّ جازيتمونا على ذلك في هذه اللحظات العصيبة؟
ـ (قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّـهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ) [إبراهيم:21] هذا جواب المتبوعين: إنّ حالنا وحالكم ـ اليوم ـ واحد، وليس لنا من سبيل إلى الجنة، ولن يفيدنا اليوم شيء فكيف ننقذكم؟
ـ والنتيجة؟ (إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ)[البقرة166]، كل الروابط تتقطّع، وكل العناوين التي كانت تربطهم ببعض تختفي،لا انتماء حزبي ولا قبلي ولا وظيفي ولا غير ذلك.
ـ وإذ لا تنجح هذه المحاولة فإن الضعفاء يحاولون أن يجعلوها شماعة يعلِّقون عليها أخطاءهم وجرائمهم: (وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا)[الأحزاب:67] ولكن تفشل محاولتهم من جديد.
ـ وحينها يأتي الندم والرغبة في الانتقام بصور مختلفة، منها: (وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَٰلِكَ يُرِيهِمُ اللَّـهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ) [البقرة:167] ومنها: (رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا) [الأحزاب:68]
ـ القشة الثانية: قشة الشيطان. الأضواء يوم القيامة ستكون مسلطة على الشيطان، فهو أبرز أبطال قصة الصراع بين الحق والباطل، وبين الخير والشر، والعدل والظلم في الحياة الدنيا.. ويتعلق الغارقون بقشةِ تحميله كامل المسؤولية لما جرى لهم، وللمصير الذي ينتظرهم.
ـ وكأنهم هنا يقولون أنهم كانوا كالمجبورين وكالأدوات التي لا تملك الاختيار، وكل المسؤولية تقع على الشيطان، وقد سلّطْتَه علينا يا رب، فما ذنبُنا؟ فماذا يقول لهم الشيطان حينذاك؟ (وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّـهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلَّا أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنفُسَكُم مَّا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ) أي منقذكم وناصركم (وَمَا أَنتُم بِمُصْرِخِيَّ)[إبراهيم:22].
ـ وهذا ما أشار إليه الإمام الحسين(ع) انطلاقاً من القرآن، وهو في مجلسٍ جمعه بمعاوية، ولعل ذلك حين جاء المدينة ليروّج لحكم يزيد فقيل له: (إن الناس قد رموا أبصارَهم إلى الحسين، فلو قد أمرتَه يصعد المنبر فيخطب، فإنَّ فيه حصْراً، وفي لسانه كلالة، فقال لهم معاوية: قد ظننا ذلك بالحسن، فلم يزل حتى عَظُم في أعين الناس وفَضَحنا. فلم يزالوا به حتى قال للحسين(ع): يا أباعبدالله، لو صعدتَ المنبر فخطبتَ.. فصعد الحسين(ع) المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم صلى على النبي(ص). فسمع رجلاً يقول: من هذا الذي يخطب؟) ولعله من الوافدين على المدينة (فقال الحسين(ع): نحن حزبُ الله الغالِبون وعترةُ رسولِ الله الأقربون وأهلُ بيته الطيّبون، وأحدُ الثقلين الذيْن جعلنا رسول الله ثانيَ كتاب الله تبارك وتعالى، الذي فيه تفصيل كل شيء، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، والمعوَّل علينا في تفسيره، ولا يبطئُنا تأويلُه، بل نتّبع حقائقَه. فأطيعونا فإن طاعتنا مفروضة، إذ كانت بطاعة الله ورسوله مقرونة، قال الله عزوجل: "أَطِيعُوا اللَّـهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّـهِ وَالرَّسُولِ". وقال: "وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّـهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا". وأحذّركم الإصغاء إلى هتوف الشيطان بكم، فإنه لكم عدو مبين فتكونوا كأوليائه الذين قال لهم: "لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكُمْ" فتلقون للسيوف ضَرَباً، وللرماح وَرَداً وللعُمَد حَطَماً، وللسهام غرضاً، ثم لا يُقبلُ مِن نفسٍ إيمانُها لم تكن آمنَت من قبل أو كسبَت في إيمانِها خيراً، قال معاوية: حسبُك يا أبا عبدالله فقد أبلغتَ).
ـ وما ينطبق على الأفراد ينطبق على الأحزاب والجماعات والدول... فالضعف ليس مبرراً للاستسلام للإرادات الباطلة لأصحاب القوة والبطش من سائر الأحزاب والجماعات والدول.
ـ وعلى الضعيف أن يبحث عن مكامن القوة لديه ولدى الآخرين ممن يشاركونه الضعف فيحشدَها ضد من يريد استغلال ضعفه.. كما ويبحث عن نقاط الضعف عند القوي لتكون هي الثغرة التي من خلالها يخفف من وطأته.. إذ لا قوة مطلقة لأي وجود سوى الله سبحانه.
ـ وهذا ما يفعله اليوم الأطفال والشباب الفلسطينيون ـ لاسيما في القدس المحتلة ـ وهم يقاومون إجرام الصهاينة والمستوطنين بما بات يُعرف بمقاومة السكاكين والحجارة. ولاشك أن ما تمتلكه الآلة الصهيونية الإجرامية من قوة لا تُقاس ـ من حيث الموازين المادية ـ بما لدى هؤلاء الأطفال والشباب، إلا أنهم درسوا أنفسهم، وعرفوا مكامن القوة لديهم.. ودرسوا عدوهم الغاصب، وأدركوا نقطة ضعفٍ لديه، وانطلقوا في مقاومتهم بعد أن استسلم الآخرون للغطرسة الصهيونية، أو انشغلوا بقاضاياهم، أو انغمسوا في مواجهة مجنونة مع التكفيريين.
إن مسؤولية الانتماء إلى الإسلام تستدعي من كل أحدٍ منا إدراك حقيقةِ أن الحسابَ الإلهي في الآخرة حسابٌ فردي، فلن يدافع عنك أحد، بل أنت الذي تدافع عن نفسك أمام الله: (يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِّلَّـهِ) [الانفطار:19] فلنفكر ماذا يريد الله منا قبل أن نفكر ماذا يقول الناس عنا.. وقبل أن نفكر كيف ندافع عن أنفسنا أمام الناس، فلنفكر كيف ندافع عن أنفسنا أمام الله، لأن الناس يزولون وكلامهم يزول (وَيَبْقَىٰ وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ) [الرحمن:27] وقد كانت عظمة الحسين(ع) ـ الذي نُحيي ذكرى استشهاده في هذه الأيام ـ أن حركته كانت لله وإلى الله، فلنكن في نهج الحسين ولتكن حركتنا في الحياة لله وإلى الله لنكون من المفلحين. وتحيَّةَ إكبارٍ وتعظيم لشبابِ فلسطينَ وأطفالِها المقاومين الذين يقذفون في قلوب الصهاينة الرعبَ، ويواجهون وحشيتَهم بصبرٍ وثبات.