بين المهدي والكليم - الشيخ علي حسن


عند الحديث عن أدلة الإيمان بالمسألة المهدوية، يطرح البعض آية: (وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ)[القصص:5] كدليل مباشر وصريح على المطلب.
أحدهما يُثبِت:
وخلاصة ذلك أن الله تعالى يخبر في الآية السابقة عما سيجري في المستقبل، وعلى وجه الخصوص في نهاية الزمان، بدليل استعمال كلمات (نريد، نمن، نجعل) بصيغة المضارع لا الماضي، واستعمال كلمة (الوارثين) أي الذين: (يرثون الأرض، أي أنهم آخر من يحكم الأرض، هذا معنى الوارثين، والمستضعفون هم المسلمون طبعاً، المسلمون هم الوارثون. إذن لابد من دولة إسلامية تعم أرجاء الأرض في آخر الزمان، حسب صريح القرآن الكريم، وهذا أمر مسلم به ليس فيه شك) هكذا جاء في كلمات البعض.
وتمسك أصحاب هذا الرأي بما جاء عن الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام أنه قال: (المستضعفون في الأرض المذكورون في الكتاب، الذين يجعلهم الله أئمة: نحن أهل البيت، يبعث الله مهديَّهم فيعزهم ويذل عدوهم)، وفي ونص آخر عنه عليه السلام: (لتعطفّن الدنيا علينا بعد شِماسها) تمردها (عطف الضروس) الناقة الشرسة (على ولدها. وتلا قوله تعالى: "وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ").
وآخر ينفي:
وفي المقابل، ينفي آخرون علاقة هذه الآية بالمسألة المهدوية، بدليل أنها جاءت في ضمن الحديث عن النبي موسى عليه السلام، والوعد الإلهي له ولمن ينصره بوراثة أرض مصر وحكمها: (نَتْلُوا عَلَيْكَ مِن نَّبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ، إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ، وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ، وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ)[القصص:3-6]. وأن الأفعال جاءت بصيغة المضارع: (ليبين أن المنّ على موسى والمستضعفين من بني إسرائيل بالتمكين في الأرض إنما سيكون بعد استضعاف فرعون لهم).
بين التأويل والتفسير:
وبين هذا الرأي وذاك لابد من وقفة مع أصل من أصول التعامل مع آيات القرآن الكريم، نبّه عليه الشهيد السيد محمد باقر الصدر حيث قال: (النقطة الجوهرية في تفسير القرآن الكريم تكمن بضرورة التمييز بين تفسير اللفظ على صعيد المفاهيم، وتفسير المعنى بتجسيده في صورة محددة على صعيد المصاديق).
فالشهيد الصدر ينبِّه إلى نقطة مهمة وحساسة في التعامل مع جملة من الأحاديث التي تتضمن نصاً قرآنياً، على نحو التفسير أو التأويل أو الاستشهاد، قد تسبب في أحيان كثيرة نوعاً من النزاع بين أصحاب الآراء المختلفة، نتيجة الخطأ في التعامل مع تلك النصوص وفهم دلالتها.
وخلاصة تلك النقطة التي تحل التناقض تتمثل في التفريق بين تفسير اللفظ وتفسير المعنى، فتفسير المعنى هو تجسيده في المصاديق الخارجية، وهذا هو التأويل. أما بيان اللفظ فهو التفسير، فالتأويل ـ بحسب الشهيد الصدر ـ ليس أمراً لغوياً، إنما هو عملية تجسيدية، تتمثل في البحث عن المصاديق.
بطون القرآن:
ويبدو أن هذا هو المعنى المراد في بعض النصوص التي تتحدث عن وجود باطن أو بطون للقرآن، من قبيل المروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (إن للقرآن ظهراً وبطناً)، فقد بيّن الإمام محمد الباقر عليه السلام المراد من ذلك كما روي عنه: (ظهرُه: الذين نزل فيهم القرآن، وبطنه: الذين عملوا بأعمالهم، يجري فيهم ما نزل في أولئك).
وهذا يعني أن المراد من بطن الآية انطباقها على الأحداث المتجددة فيما لو تكررت الشروط أو تشابهت المواقف، لا بمعنى أن الآية نزلت في الأحداث المتجددة وقصدَتها بذاتها. وهذا البيان يحل الإشكال الواقع بين المستدلين بآية: (وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ استُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ) على المسألة المهدوية، وبين الرافضين لهذا الاستدلال، إذ سنقول حينئذ أن الآية نازلة في شأن الصراع بين موسى عليه السلام وبين فرعون، وهذا واضح من خلال قراءة الآيات السابقة واللاحقة.. ولكنها في نفس الوقت منطبقة على المسألة المهدوية، بلحاظ أن الصراع بين المهدي وطواغيت زمانه سيكون صراعاً بين الحق والباطل، تماماً كالصراع بين موسى وفرعون، وستكون خاتمة المطاف أن يرث المهديُّ وأنصارُه الأرض بإقامة دولة العدل بإذن الله تعالى، وقد صح وتواتر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قوله في المهدي المنتظر: ( يملأ الأرض قِسطاً وعدلاً كما مُلئت ظلماً وجَوراً).
وراثة الأرض:
وبهذا أيضاً يُحلّ التعارض بين الطرفين حول قوله تعالى: (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ)[الأنبياء:105]، حيث استدل بها المؤيدون، معتبرين أن الله تعالى يتحدث في الآية عن وراثة المهدي وأنصاره للأرض وملئها عدلاً وقسطاً، بينما يتمسك الرافضون لهذا الاستدلال بسياق الآيات المحيطة بها، وهو يتضمن حديثاً عن الوراثة في الآخرة: (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ، لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ، لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ، يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاء كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ، وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ)[الأنبياء:102-105]، أما ما جاء في الزبور (مزامير داود) فنصُّه بالترجمة العربية: (لأَنَّ عَامِلِي الشَّرِّ يُقْطَعُونَ، وَالَّذِينَ يَنْتَظِرُونَ الرَّبَّ هُمْ يَرِثُونَ الأَرْضَ.. أَمَّا الْوُدَعَاءُ فَيَرِثُونَ الأَرْضَ، وَيَتَلَذَّذُونَ فِي كَثْرَةِ السَّلاَمَةِ.. لأَنَّ الْمُبَارَكِينَ مِنْهُ يَرِثُونَ الأَرْضَ، وَالْمَلْعُونِينَ مِنْهُ يُقْطَعُونَ.. الصِّدِّيقُونَ يَرِثُونَ الأَرْضَ وَيَسْكُنُونَهَا إِلَى الأَبَدِ)[المزمور 37].
والحل بسيط وفق القاعدة التي قدمها الشهيد الصدر، وتكمن في القول بانطباق الآية على المسألة المهدوية دون نزولها فيها على وجه التحديد.
إن من الجهل أن نحوِّل المسألة المهدوية التي أراد لها النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن تكون رايةً تجمع كل المسلمين حول غايةٍ رساليةٍ هي تمكين العدل في الأرض، إلى عنوانٍ لصراع آخر بين المذاهب الإسلامية، تتراشق الأطراف من خلالها بالتُّهم، ويُسفِّه بها بعضُهم بعضاً.. إنه الشمس التي ينتظر طلوعَها المسلمون، بل والمستضعَفون في العالم.. فهل سيشك عاقلٌ بالشمس إذا طلعت؟