خطبة الجمعة 5 شعبان 1434 ـ الشيخ علي حسن ـ الخطبة الثانية : الخطاب القرآني

ـ نزل القرآن بصورة متفرقة خلال سنوات البعثة النبوية الشريفة، (وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً)[الإسراء:106]، ولربما كان هذا على خلاف طريقة نزول الكتب السماوية السابقة.
ـ وقد تحدث القرآن في بيان السبب في ذلك حيث قال سبحانه: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً)[الفرقان:32] أي أن الله أراد أن تكون آيات القرآن:
1ـ سنداً للنبي وللمسلمين في مواجهة المواقف والظروف العصيبة التي يواجهونها في صراعهم الدعوي.
2ـ وفي كشف المؤامرات التي كانت تُحاك ضدهم.
3ـ ولمعالجة قضاياهم الاجتماعية والفكرية والسلوكية انطلاقاً من الأحداث، لا بصورة توجيهات مطلقة.
ـ هذا الأسلوب في نزول القرآن كان يؤدي إلى تخفيف العبء عن رسول الله، ويقوّي موقفه، ويسددّه في إجراءاته، وهو ما قد نفهمه من قوله: (لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ).
ـ ولذا نجد في القرآن آيات تتناول وقائع حدثت، وتوضِّح الأسباب أحياناً، وتضع الحلول، سواء أكان الموضوع في البعد الاجتماعي أو الفكري أو الدعوي أو العسكري أو غير ذلك، ومن الأمثلة في:
ـ البعد الاجتماعي: معالجة قضية المرأة المشتكية من زوجها: (قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ)[المجادلة:1].
ـ البعد الفكري: معالجة قضية القتال في الشهر الحرام: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ)[البقرة:217].
ـ البعد الدعوي: معالجة قضية خيار الدعوة بين المستضعفين وسادات قريش: (عَبَسَ وَتَوَلَّى، أَن جَاءَهُ الأَعْمَى، وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى، أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى، أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى، فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّى، وَمَا عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى، وَأَمَّا مَن جَاءَكَ يَسْعَى، وَهُوَ يَخْشَى، فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّى)[عبس:1-10].
ـ البعد العسكري: معالجة وضع حرج واجهه المسلمون في إحدى الغزوات: (وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُواْ فَلْيَكُونُواْ مِن وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّواْ فَلْيُصَلُّواْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُم مَّيْلَةً وَاحِدَةً)[النساء:102].
ـ ومن هنا نقول بكل وضوح أن الخطاب القرآني ما كان خطاباً نظرياً يحلِّق في عالم الفرضيات الفلسفية، بل كان خطاباً واقعياً يعالج قضايا الساعة، ويذكر أسس تلك المعالجة بما يفيد في معالجة وقائع قد تحدث في أي زمن.
ـ كما قدّم القرآن الخطاب المتناسب مع ذلك الحدث، سواء بأسلوب الأمر المولوي، أو النصح، أو تقديم المعلومة، أو التهديد، أو كشف الحقائق، أو غير ذلك.
ـ كما عمد القرآن إلى الانطلاق من القصص والأحداث التاريخية لمعالجة قضايا الساعة، وهذا يعني أنه انطلق من التاريخ إلى الحاضر والمستقبل.
ـ إن ما سبق يحمِّلنا مسؤولية إعادة النظر في الخطاب الإسلامي، لاسيما الخطاب المقدَّم من مرجعياتنا الدينية التي نأمل أن تنفتح على قضايا الساعة بصورة أوسع، وأن تقدِّم الحلول العملية لمعاناة الإنسان ككل بصورة منتظمة، باعتباره خطاباً يمثِّل مدرسة سماوية ذات رسالة إنسانية عامة، تماماً كما كان القرآن الكريم في بعض خطاباته وآياته التي لم تكن مؤطَّرةً في حدود جغرافية أو عقَدية معينة، وقد صُدِّرت تلك الآيات بقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ) (يَا بَنِي آدَمَ) (يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ). وهذا مهم جداً في تحقيق عالمية الرسالة الإسلامية: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ) [الأنبياء:107] في مقابل محدودية الجغرافيا التي بُعث فيها النبي(ص): (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولا مِّنْهُمْ)[الجمعة:2]. وإذا كانت بعض الخطابات الإسلامية تتسم بذلك، فإنها تدور في أوساط إعلامية محدودة، لا تقرع أسماع الكثير من المسلمين، فضلاً عن غيرهم، ولنتذكر كيف كان الإمام الخميني رضوان الله عليه يخاطب مستضعفي العالم، فتتطاير كلماته في أرجاء العالم، ليتلقفها المستضعفون أياً كانت ديانتهم أو لغتهم أو قوميتهم، ومهما ابتعدوا جغرافياً. وإنني لأتألم أحياناً أن أجد المؤسسة الفاتيكانية متمثلة في البابا تسبقنا في تقديم خطاباتها العالمية في معايشةٍ مع قضايا الناس جميعاً ولاسيما المحرومين منهم، وبلغةٍ إنسانية رحيمة، تتلاقفها وسائل الإعلام العربية وغيرها، وتغيب حوزاتنا العلمية في قضايا التاريخ أوالمسائل الخلافية أو تُقصِر خطاباتها على المؤمنين بمدرستها العقدية. إن هذه الحقيقة تجعلنا نعترف أن خطابنا الإسلامي المعاصر يسير مبتعداً عن نسق الخطاب القرآني، وعن عالمية الرسالة الإسلامية التي حمل مشعلها النبي الكرم وأهل بيته(ع).
ـ قبل أن أنهي خطبتي هذه لابد وأن أعلق على التطورات الأخيرة ذات البعد الطائفي المقيت عندنا في الكويت، إذ يبدو أن البعض لن يرتاح إلا أن يجر الكويت إلى حالة مشابهة لما يعانى منه العراق وسوريا وأفغانستان.. صحيح أن بعض التصريحات والتصرفات والقرارات تتوجَّه في ظاهرها إلى دولة بعينها، أو حزب بخصوصه، إلا أن ما تستبطنه ـ كما لا يخفى على أكثر الناس سذاجةًً ـ هو البُعد الطائفي الذي يُراد له أن يتفجَّر ليُكسِب الحراك القاعدي الظلامي التكفيري شرعيَّةً سماوية، وهو أبعد ما يكون عن الشرعية، أو ليطفئ شيئاً من سعير أحقاد الروح التي كانت وما زالت تنفخ فيهم نيران كراهية الحياة والسلم والأمن. ويكفي المرء أن يتابع وسائل التواصل الاجتماعي ليتأكد من ذلك، وكيف تلقّف مستخدموها تلك التصريحات والإجراءات فسارعوا نحو التحريض على الصراع الطائفي في الكويت. إن جرّ الكويت إلى امتدادات الصراع في سوريا لن يكون في صالح أي طرف، ولذا فإننا نهيب بالحكومة أن تتخذ المواقف الحازمة والسريعة التي تجنِّب وقوع الكويت في أتون فتنة تعمُّ الجميع، وقد تخرج عن السيطرة.. كما ونشد على يد القوى الوطنية وحكماء الكويت وأعضاء مجلس الأمة ممن قاموا بحراك يعزز الوحدة ويحارب مشعلي الفتنة ومثيري روح الكراهية بين أبناء الوطن الواحد، ونطالبهم بمزيد من الجهود العملية.. وأخيراً فإن على المواطنين الغيورين على هذا البلد وعلى الدين أن يترفّعوا على لغة الإسفاف، وأن يتجنبوا الوقوع في مصائد شيطانية تُنصَب لإيقاعهم في شراك الفتنة، وأن يؤكِّدوا دائماً على أسس الوحدة الوطنية، ومقوِّمات الأمن.. حفظ الله الكويت وشعبها من كل مكروه.