الرحمة الإلهية

في كلمة قالها الإمام موسى بن جعفر الكاظم عليه السلام لصاحبه هشام بن الحكم: (اعلم أن الله لم يرفع المتواضعين بقدر تواضعهم ، ولكن رفعهم بقدر عظمته ومجده) فقد وضع الله قانوناً وسنّة اجتماعية، ينص كما في الحديث النبوي على أنه: (ما تواضع أحد لله إلا رفعه الله).. ولا يختص هذا بالمؤمن، بل بأي أحد يعيش في سلوكه هذه القيمة، فالناس الأسوياء يتفاعلون إيجابياً بحسب فطرتهم مع الشخص المتواضع، مما يجعله كبيراً في أعينهم، ويدفعهم لتقديره عملياً ولو بالقول.
ومن الواضح أن تراكم المواقف والتقييم الإيجابي للشخص المتواضع يؤدي إلى ارتفاع قيمته بصورة تدريجية، وهو ما قد نفهمه من خلال تعبير النبي صلى الله عليه وآله: (رفعه الله).
والإمام الكاظم ينبّه إلى أن ارتفاع شأن المتواضع عند الناس، أكبر بكثير مما يستحقه في مقابل تواضعه، ولكنها الإرادة الإلهية التي جعلت للتواضع كل تلك القيمة في الفطرة الإنسانية، لأهميته.. فمع عدم التواضع يزحف التكبر تدريجياً ليتحول إلى مرض مدمّر للعلاقات الإنسانية ولغاية من خلق الناس بكل هذا التنوع: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا) [الحجرات:13].
الأمن من الخوف:
ثم قال الإمام الكاظم عليه السلام: (ولم يؤمِن الخائفين بقدْر خوفهم، ولكن آمنَهم بقدْر كرمه وجوده) ولعل الصورة الواضحة المائلة أمامنا ما نقرؤه في سورة قريش: (لإِيلافِ قُرَيْشٍ، إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ، فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ، الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ)، فقد طلب الخليل إبراهيم عليه السلام من ربه الأمن لمكة: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا)[إبراهيم:35] فكان العطاء الإلهي متجاوزاً كل حدود التصور، إذ جعل لمكة حرماً عظيماً يأمن فيه الناس، ويأمن فيه الحيوان، ويأمن فيه النبات، وقد قال تعالى: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ)[العنكبوت:67].
تفريج الهموم:
ثم قال الإمام الكاظم عليه السلام: (ولم يفرّج المحزونين بقدر حزنهم، ولكن بقدر رأفته ورحمته) ونسترجع قصة النبي يعقوب عليه السلام حيث يقول تعالى: (وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ) [يوسف:84]، وجاء الفرج لا بمجرد عودة الابن الذي فقده، بل كما قال يوسف عليه السلام: (وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ مِن بَعْدِ أَن نَّزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاء إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ، رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ) [يوسف:100-101].
رأفة ورحمة شاملة:
ثم قال الإمام الكاظم عليه السلام: (فما ظنك بالرؤوف الرحيم الذي يتودد إلى من يؤذيه بأوليائه فكيف بمن يُؤذَى فيه؟ وما ظنك بالتواب الرحيم الذي يتوب على من يعاديه، فكيف بمن يترضاه ويختار عداوة الخلق فيه؟) إنها رحمة الله الواسعة التي يتطلع إليها عباده في كل لحظة من لحظات حياتهم، وفي كل أوضاعهم المتغيرة، في الشدة كانوا أم في الرخاء.