الإمام الهادي

عاش عاشر أئمة أهل البيت الإمام علي بن محمد عليه السلام الملقب بالهادي قياساً إلى العمر الطبيعي عمراً قصيراً، فقد كان عمره يوم وفاته إحدى وأربعين سنةً، وكان مولده عليه السلام في سنة 212هـ في قرية (صريا) التي أسَّسها جده الإمام موسى الكاظم عليه السلام على ثلاثة أميال من المدينة.
وقد عاش حياته هذه في نشاط دائم، يعلّم الناس، ويعلّم العلماء منهم، حتى ذُكِر أنَّ الذين رووا عنه علومه بلغوا ما يقارب المائة وخمسةٍ وثمانين راوياً، والراوي عادةً يمثّل موقعاً ثقافياً متقدماً في ذلك الوقت.
رقابة وتصحيح:
أخذ الإمام الهادي عليه السلام على عاتقه مهمة مراقبة الوضع الفكري عند الناس، فتصدّى للانحرافات التي تعرّض لها الواقع الإسلاميّ، لأنَّ من مسؤوليّة الأنبياء والأولياء والعلماء في كلِّ زمان ومكان، هي أن يدرسوا الواقع ليصلحوا الخطأ، وليقوّموا الانحراف بالأساليب التي وضعها الله تعالى في كتابه، بالحكمة والموعظة الحسنة، والجدال بالتي هي أحسن.
دقة وحركة فاعلة:
كان للإمام عليه السلام جهازٌ متحرّك متنوّع يغطي الكثير من أخبار الناس هنا وهناك، ويحمل تعاليمه إليهم بطريقة دقيقة جدّاً، حتى لكان يعمد إلى استبدال وكيل له يشرف على شؤون التابعين له في المناطق المختلفة فيما لو استدع الأمر ذلك، مع بيان الأسس التي يجب أن يعتمدها المجتمع المؤمن في بناء العلاقة فيما بين أفراده لاسيما في حال اختلال الموازين أو ظهور بوادر الفرقة، وهذا ما تجلى في رسالة بعثها تتضمن ما يلي: (نسخة الكتاب مع ابن راشد إلى جماعة الموالي الذين هم ببغداد، المقيمين بها والمدائن والسواد وما يليها: أحمَدُ اللهَ إليكم ما أنا عليه من عافيةٍ وحُسن عائدة، وأُصلّي على نبيِّه وآله أفضل صلواته وأكمل رحمته ورأفته، وإنّي أقمت أبا عليٍّ بن راشد مقام الحسين بن عبد ربّه، ومَن كان قبله من وكلائي وصار في منـزلته عندي.. فصيروا ـ رحمكم الله ـ إلى الدفع إليه ذلك وإليَّ، وألاّ تجعلوا له على أنفسكم علّة، فعليكم بالخروج عن ذلك، والتسرّع إلى طاعة الله وتحليل أموالكم والحقن لدمائكم، وتعاونوا على البرِّ والتّقوى ولا تعاونوا على الإثمِ والعدوان، واتقوا الله لعلكم ترحمون، واعتصموا بحبل الله جميعاً، ولا تموتُنَّ إلاّ وأنتم مسلمون، فقد أوجبت في طاعته طاعتي، والخروج إلى عصيانه الخروج إلى عصياني، فالزموا الطريق يأجركم الله ويزيدكم من فضله، فإنَّ الله بما عنده واسعٌ كريم، متطوِّل على عباده رحيم، نحن وأنتم في وديعة الله وحفظه، وكتبتُه بخطّي والحمد لله كثيراً).
إنّ التدقيق في هذه الرسالة يرينا أنَّ الإمام الهادي كان يملك جهازاً منظّماً من الوكلاء الذين كان يراقبهم ويعمل على تبديلهم بين وقت وآخر لأسباب مختلفة في ذلك، وأن هناك مسؤولية في جباية الحقوق الشرعية التي أوجبها الله وللمسؤوليات الكبرى التي يتحملها في موقع الإمامة، دون أن ينسى دفعهم نحو وحدة الكلمة وتقوى الله. وقد استطاع هذا الجهاز السير في هذا الخطّ، فجعل للإمام شعبيّة كبيرة لدى المسلمين، ممن كان يعتقد بإمامته، وممن كان لا يعتقد بها، حتى خاف خلفاء بني العبّاس الذين عاصرهم عليه السلام على ملكهم منه، من خلال محبة الناس لأهل البيت، ومن ثقة الناس بهم وإحساسهم بقداستهم.
إخراج الإمام من الحرمين:
روى المسعودي في كتابه مروج الذهب، قال: (كتب [بريحة] صاحب الصلاة بالحرمين إلى المتوكّل، إن كان له بالحرمين حاجة، فأخرج عليَّ بن محمد [الهادي] منها، فإنَّه قد دعا إلى نفسه واتّبعه خَلْقٌ كثير، وتابع بريحة الكتب في هذا المعنى، فوجّه المتوكّل بيحيى بن هرثمة، وكتب معه إلى أبي الحسن كتاباً جليلاً يعرّفه أنَّه قد اشتاق إليه ويسأله القدوم عليه، وأمر يحيى بالسير معه كما يحبّ، وكتب إلى يحيى يعرّفه ذلك).
من هذا نعرف أنَّ بريحة العبّاسي يكتب إلى المتوكّل أنّ الحرمين كادا أن يكونا تحت إمرة الإمام الهادي، علماً بأن الإمام لم يكن في موقع الدعوة إلى الثورة ضدّ الخلافة العباسيّة، لعدم توفّر الظروف الموضوعية لذلك، ولكنَّ هذا الرجل رأى أنَّ الناس تلتفُّ حول الإمام التفافاً يوحي أنَّ الناس يرون فيه ذلك، ويعتقدون أنَّه الشخص المفضّل والمؤهّل لإدارة أمور النّاس، من هنا، كانت هذه الرسالة التي تُشعر مركز السلطة بالخطر الذي تحسّسه بريحة، ما دعاه إلى متابعة الكتابة للمتوكّل في أمر الإمام الهادي عليه السلام.. وهو ما تحقق لاحقاً باضطراره إلى الهجرة إلى سامراء حيث جعل فيها تحت الرقابة المباشرة حتى توفي فيها عام 254 هـ.