مُذكّرات مُراهق ـ الجزء العاشر

ذات مرّة، وفيما كان المعلم يُحدِّثنا عن كيفية التخلص من أخطائنا واجتناب عاداتنا السيِّئة، أشار إلى ضرورة أن نتشاور مع الأكبر والأصغر منّا، وأنّ الاستشارة تعني أن نجمع عقلاً مع عقل حتى ينضج الرّأي، فانبريتُ له قائلاً: مشكلتي يا أستاذ أنّني دائم التمسّك برأيي، لأنني أشعر بأنّني دائماً على حقٍّ.. وهنا صاحَ أكثر التلاميذ: كلّنا مثلك.
عندما أخرج المعلِّم عمله ورقيّة من جيبه وطلبَ إلى طالبينِ منّا أن يأتيا إلى مقدّمة الصفّ، فأوقف أحد الطالبين أمام وجه العملة، والآخر خلفها وهو ممسِك بها من طرفها، وسأل الأوّل: ماذا ترى؟ قال: وجه العملة والصورة التي عليها، فقال له: أنتَ على حقّ! ثمّ سأل الثاني: وأنتَ ماذا ترى؟ فقال: خلف العملة والكتابة التي عليها. فقال له: وأنتَ على حقٍّ أيضاً!
ثمّ غيّر مكانهما، فغيّرا شهاداتهما، وقال لهما أيضاً: أنتما على حقٍّ، وكان مثاله واضحاً لا يحتاج إلى شرح، فما أراه بعيني هو الحقّ، وما يراهُ الآخر بعينه هو الحقّ، ولو كنتُ مكانه لرأيتُ ما يرى، والعكس صحيح، ولذلك فإنّ الحقيقة تكتمل بالنظر للموضوع من جميع الوجوه.
بعد هذا المثال التوضيحي، كنتُ إذا أردتُ أن أكوِّن فكرة عن شيء، أو أتّخذ قراراً، أو أقيِّم شخصاً، أتذكّر نموذج العملة الورقية، فإذا عرفت شيئاً أو جانباً، قلت: حسناً هذا وجه، فما هو الوجه الآخر؟ وبذلك تكتمل الصورة لديَّ.
ولأنني كنتُ أحبّ الأمثال التقريبية، كان كلّ من حولي يعرف ذلك، فكانوا كما لاحظتم من سير المذكّرات يوصلون الفكرة إليَّ بأسلوب المقال، ولا أنس أيضاً المثال الذي ضربهُ لي خالي عندما اشتركتُ في مسابقة مدرسيّة، ولم أكن الأوّل فيها، وكنتُ أمنِّي نفسي بالبطولة، فلمّا رآني خالي آسفاً حزيناً، قال: إنّ البطولة التي تشاهدها في الأفلام ليست دائماً فردية، فهناك (البطل) وهناك(المشارك في البطولة)، لقد شاركتَ في البطولة، وهذا بحدِّ ذاته شيء جيِّد، فطيّبَ بمثاله الجميل خاطري.
وعلى ذكر البطولة والبطل، فإنّ المعلِّم كثيراً ما كان يقصّ علينا قصص أبطال الإسلام، ويقول إنّهم ليسوا فقط أولئك الذين أنجزوا إنجازاتٍ باهرةٍ في ميادين الفتح والجهاد، بل حتى أولئك الذين أصلحوا مفاسد العالم، وعمّروا الحياة بالمنافع والمفيد من أعمالهم، وأحسنوا للناس فيما قدّموا من خدمات، تُذكر فتُشكر، وبما أثروا المكتبة الإسلامية بعقولهم الجبّارة.. فكلّ هؤلاء أبطال، ثمّ يغمزنا بقوله: لا أبطال (السّوبر ستار)..
ويختم: إنّ البطولة في ساحاتِ الله واسعة وكثيرة وأضواؤها لا تنطفئ، وأوسمتها لا تصدأ، فإذا كنتم تحبّون تقليد الأبطال ونيل التفوّق، فشاركوا في البطولة التي تُرضي الله ولا تموت بموتكم.. كونوا الصالحين ومع الصالحين.